التطور هو سنة الحياة وهو من أهم ما يميز الإنسان عن بقية المخلوقات. ويشهد التاريخ للإنسان بتطوره المستمر منذ العصور البدائية مرورا بعصور البخار والكهرباء ووصولا إلى عصر الذرة ومركبات الفضاء والإنترنت والهواتف الجوالة والنانو تكنولوجي، حتى أصبحنا نلهث وراء ما تقدمه لنا التقنية، ويزداد اعتمادنا عليها يوما بعد يوم. فأصبحت حياتنا تعتمد على البريد الإلكتروني والصوتي، وماكينات السحب والإيداع الآلي في البنوك وخدمات الحكومة الإلكترونية وخدمات الحجز الإلكتروني لمقاعد الطائرات والقطارات أو حتى قراءة الصحيفة اليومية الإلكترونية، وغير ذلك من معطيات التقنية الحديثة. وبالرغم من أن استخدامنا لتلك التقنية وتقبلنا لها يخضع لمحض اختيارنا، إلا أن هناك العديد من المحددات التي تتحكم في ذلك، مثل السن ودرجة التعليم والدخل وسابق الخبرة وغير ذلك من الأمور. ولكننا نلاحظ بمرور الوقت أنه لا مفر لنا من التعامل مع الكثير من التقنيات التي نستعملها في حياتنا اليومية والتي قد أصبحت تفرض علينا فرضا، وما كان يعد -منذ عدة سنوات - من رفاهية استخدام التقنية قد أصبح اليوم هو الخيار الأمثل - أو الأوحد - والذي بدونه يتحمل الإنسان من المشاق ما لا طاقة له بها. وبالرغم من أن التقنية قد غيرت حياتنا بالفعل إلى الأحسن، وجعلتها أكثر إبهارا وثراء، إلا أنها قد زادت من تعقيدها وفرضت عليها الكثير من المحددات في نفس الوقت. فالتعامل الناجح مع عالم التقنية وما يقدمه من أتمتة للخدمات يحتاج إلى مهارة وصبر ومعرفة، وهو ما قد لا يتوفر عند بعض شرائح المجتمع مما قد يخلق فجوة بينهم. ويخشى من أن تؤدي تلك الفجوة بين من «يملكون القدرة « على استخدام التقنية ومن «لا يملكون القدرة» على استخدامها، إلى أن تفوز الفئة الأولى بنصيب الأسد من معطيات عصر التقنية بينما يتم تهميش الفئة الثانية وعزلها. والمسنون يمثلون الأكثرية من تلك الفئة التي لا تستخدم التقنية، حيث تقل قدرتهم – يوما بعد يوم – عن التعامل مع معطيات التقدم المتعاظم في استخدام التقنية في كافة مناحي الحياة. بل إن الكثيرين منهم، ممن لا يزالون يمارسون الأعمال الحكومية في مواقع الإدارة العليا، يرفضون الحلول التقنية، التي تغير ما اعتادوا عليه من ممارسات طوال حياتهم. لقد كانت هناك دائما فجوة بين الأجيال في تذوق الموسيقى وفي اختيار الأزياء وفي الثقافة والسياسة وغير ذلك من الأمور، ثم أدت التقنية إلى إضافة فجوة جديدة بين الكبار الذين يعزفون عن استخدامها، وبين الشباب الذين انغمسوا فيها حتى باتوا يتنفسون هواء رقميا. ويرجع سبب تلك الفجوة إلى العديد من العوامل التي تتراوح بين الفقر أو الحاجة إلى التدريب والتعلم أو عدم الإتاحة أو ممارسة التعلم بالنظم التقليدية أو وجود مصطلحات ومفردات غير مالوفة، أو ربما تكون بسبب أن المسنين لم يتمرسوا بالقدر الكافي على استخدام التقنية في تعاملاتهم اليومية في المراحل السابقة من أعمارهم بحيث باتوا يستثقلونها عندما بلغوا سن الوقار. وهناك العديد من الشواهد الإحصائية في دول العالم المتقدم تدل على أن أكثر المسنين يعزفون عن استخدام التقنية، بل ويقاومون التغيرات التي تدفعهم إلى استخدامها. فقد ذكرت جريدة الديلى ميل -على سبيل المثال - في إحدى إصداراتها أن 9 ملايين من كبار السن فى بريطانيا لا يتعاملون نهائيا مع الإنترنت. إن نسبة المسنين في المملكة - فوق 60 سنة- تبلغ 5% من إجمالي عدد السكان، أي ما يزيد على مليون و300 ألف مسن، وذلك وفقاً لآخر إحصاء في المملكة، وفي عام 2050 سيصل عددهم إلى مليونين. ويجب أن نحرص على ألا تقع تلك الشريحة من أبناء الوطن ضحية للعزلة والتهميش نتيجة التوجه المتسارع للدولة نحو المعلوماتية. بل ونحرص على أن يتمتع المسنون بما يمكن أن تتيحه لهم التقنية من وسائل الراحة. ولذا فيجب على الدولة، وعلى منظمات المجتمع المدني، أن تنشىء مراكز متخصصة لرعاية المسنين، لا يقتصر دورها على تقديم الرعاية الصحية رغم أهميتها، ولكن يمتد بحيث يتاح لهم فيها كل ما تتيحه التقنية من خدمات ومعلومات، عن طريق موظفين يتم تخصيصهم لخدمة المسنين، فيستطيعون التواصل مع أحبائهم باستخدام الإنترنت، وصرف متطلباتهم المالية من ماكينات السحب النقدي، والحصول على خدمات الحكومة الإلكترونية والوصول إلى مصادر المعلومات، وغير ذلك مما يمكن أن توفره التقنية من خدمات يعجزون عن الاستفادة منها بأنفسهم، هذا فضلا عن أن تكون تلك المراكز بمثابة منتديات اجتماعية تحقق لهم التواصل مع نظرائهم. إن المسنين هم آباؤنا وأمهاتنا، وهم تيجان حياتنا، ويجب أن نعمل جاهدين بحيث نطوع التقنية لكي تضفي على حياتهم هدوءا وبهاء، وذلك من منطلق الاعتزاز بهم والتقدير لدورهم والوفاء بحقوقهم علينا. أستاذ المعلومات -جامعه الملك سعود عضو مجلس الشورى