قال الضَمِير المُتَكَلّم: (التّسَامح) ليس مجرد كلمة عابرة، وليست بحروف تنطقها الشِّفَاه؛ بل (التّسَامح) معنى وقِيْمَة وسُلوك؛ وبه يَصْنَعُ الإنسَان إنْسَانًا في نفسِه، وفي غَيره!! فالاختلاف أَمْرٌ طبيعي، بل حَتْمِي في هذا الكون، وهو سُنّة إلهية؛ فالخَطَأ والزّلَل من صِفَات البَشَر، ولا يُطفِأ ناره ويُعَالِج آثاره إلا التّسَامُح؛ فممّا قَرأت: أنّ العِلْمَ أو الطِّبَّ النفسي قد أثبت أن من صفات الشّخْصِيّات المضطربة، التي تُعَانِي القَلَقَ المُزْمِن أنها لا تَعْرِفُ التَسَامِح، ولم تجرب لذة العفو ونسيان الإساءة. ونُقِلَ عن الفيلسوف (فُولْتير) قَوْلَه: التَسَامُحُ نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية؛ فنحن جميعًا من نِتَاج الضّعَف، فكُلنا مَيّالُونَ للخطأ؛ ولذا دَعُونَا نُسَامِحُ بعضنا البعض، ونَتَسَامَحُ مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل). هذا ومن طبيعة التّسَامُح أنه وَصْفٌ وفِعْلٌ مُكْتَسَب يمكن أن يصِل إليه الإنسان بالتدريب والمُمَارسَة التي تبدأ بحِفْظ وترديد الآيات والأحاديث والقصص الخَالِدة التي تؤصِّلُ للتّسَامح، وتحثّ عليه! فالتّسامح والعفو يصل إليه الإنسان إذا أحبّ الخير لغيره كما يحبه لِنَفْسَه، وما أجمل أن يكون للمرء (وجْبَةُ تَسَامُحٍ لَيْلِيّة) قبل أن يَخْلُد إلى نومه!! وذلك بأن يُغْمِض عينيه، ويأخذ نفسًا عميقًا، ثم يَنفذه بعيدًا ومعه يطرد كل تَرسبات حقد وغَضَب وضغينة أحداث ذلك اليوم؛ مُرَدّدًا بنبضات قلبه قبل لِسانه لقد عَفوت عن كُلِّ من أساء لي الآن، وسوف أبدأ فَجْرِي غَدًا بصفحات بَيْضَاء نقية مع كلّ البشَر. ومما حَفِظت الذاكرة في هذا السّيَاق حِكاية صديقين كانا مُسَافِرَيْن في الصحراء، فحصَل بينهما خلاف وجِدال؛ كانت نتيجته أن ضَرَب أحدهما الآخَر على وجهه! فَتَأَلّم المضروب؛ لكنه صَمت؛ بل لم يَنطِق بكلمة واحِدة، وكَتَب فقط على رِمَال الصحراء (اليَوْمَ ضَرَبَنِي أَعَزُّ أَصْدَقَائِي عَلَى وَجْهِي)!! واصَل الصديقَان رحلتَهُمَا حتى وصَلا إلى وَاحَة ومَاء، وفجأة سقط الصّديق المَضْروب سَابِقًَا في المَاء، وبدأ بالغَرق؛ لكن صديقه سَارَع في إنقاذه!! وبعد أن اسْتَردّ أنفاسه، ذهب إلى صخرة غير بعيدة ونَحَت عليها: (اليَوْمَ أنْقَذَ حَيَاتِي أَعَزُّ أَصْدَقَائِي)!! فسَألَه صَاحِبه: ضَرَبْتُكَ في المرة الأولى؛ فَكَتَبْتَ ذلك على الرمال، والآن أَنْقَذْتُ حَياتَكَ فكتبتَ هذا على الصّخْر؛ فلماذا فَعَلْتَ ذلك؟ ومَا الفَرق؟! فأجاب صديقه: عندما يُؤْذِيَكَ أحدهم؛ فَعَلِيك أن تَكْتُبَ ما فَعَلَه على الرّمَال؛ حيث تمسَحَه وتَذروه رِياح التَّسَامُح، ولكن عندما يَصْنَع أَحدٌ معك معروفًا فعَليك أن تَكْتُب ما فَعَلَه على الصّخْر حتى يبقى خَالِدًا صَمدًا في وَجْه الرّيَاح! وأخيرًا من نصوص ابن تَيمية رحمه الله: (أَحْلَلْتُ كُلَّ مُسْلِمٍ عن إِيْذَائِهِ لِي)!! فَتعالوا نَتَسَامَى ونُسَامِح من هذه اللحظات، لِنَنسى دومًَا مَا فات؛ فهنا تَسْتَمِر الحَيَاة! ألقاكم بخير والضمائر متكلمة. تويتر: @aljamili [email protected]