في تراثنا الشِّعري ومضات جميلة تسترعي الانتباه ، وتشُّد الوجدان لما تحمله من معان لها قيمتها ومكانتها في حياة الفرد ، فهي ترسم له صورة لملامح الحياة ، وما يحدث فيها من تقلُّب وتبدُّل ، وما يعتريها من أحداث ومواقف مفاجئة لا تخطر على بال ، وما يقع فيها من نوازل تقطِّع نياط القلب ، وتحوّل الفرحة إلى حزن ، والبهجة إلى أسى وحسرة . وهذه الجوانب رصدها كثير من الشُّعراء ، ومنهم ( محمود الورَّاق ) الذي عاش في العصر العبَّاسي ، وأمعن في شعره في وصف صورة الحياة ، وما يعتريها من التَّبُّدل والتَّقلُّب ، وكيف أنَّها تغري المرء بزخارفها وبهارجها فينساق وراءها ، ويحمل على كاهله آلامها وأحزانها ، يقول في بعض أبياته الشِّعريَّة : ما أفضح الموت للدُّنيا وزينتها جدَّا ، وما أفضح الدُّنيا لأهليها لا ترجعنَّ على الدُّنيا بلائمة فعذرها لك باد في مساويها لم تبق في غيبها شيئا لصاحبها إلَّا وقد بيَّنته في معانيها تفني البنين وتفني الكُّلَّ دائبةً ونستنيم إليها لا نعاديها ويصف الورَّاق سرعة انقضاء هذه الحياة ، ومرورها كلمح البصر ، وأن أنفاس المرء فيها تعدّ فيقول: حياتك أنفاسٌ تعدُّ وكلَّما مضى نفس منها انتقصت به جزءا ويمعن الشَّاعر في وصف المرء في هذه الحياة ، وانغماسه في كثير من الملهيات ، وابتعاده عن الواجبات ، فيقول : يُحبُّ الفتى طول البقاء وإنَّه على ثقة أنَّ البقاء فناءُ زيادته في الجسم نقص حياته وليس على نقص الحياة نماءُ إذا ما طوى يوماً طوى اليوم بعضه ويطويه إن جنَّ المساء مساءُ جديدان لا يبقى الجميع عليهما ولا لهما بعد الجميع بقاءُ ولا يلبث في نظرته العميقة تلك أن ينتقل إلى الدَّعوة إلى إصلاح العمل ، والمبادرة بالأعمال الصَّالحة ، مقتبساً من الحديث النَّبوي الشَّريف ما يُنير به شعره ، ويعلي من شأن فكرته ، ويرسم ملامح البلاغة فيها ، فهو يدعو إلى ان يستغل المرء شبابه قبل هرمه ، وصحته قبل سقمه ،وفراغه قبل شغله ، حيث يدعو إلى ذلك في أبياته التي يقول فيها: بادر شبابك أن تهرما وصحَّة جسمك أن تسقما وأيَّام عيشك قبل الممات فما قَصْرُ من عاش أن يسلما ووقت فراغك بادر به ليالي شغلك في بعض ما فقدِّر فكلُّ امرئٍ قادم على علم ما كان قد قدَّما ويقول في أبيات أخرى : قدِّم لنفسك توبةً مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسنِ بادر بها عُلق النفوس فإنَّها ذخر وغنم للمنيب المحسنِ ويوصي الشَّاعر بالتَّوجه بالحمد والشكر إلى الخالق جلَّ وعلا فهو تعالى المستحقُّ للحمد والثناء على ما أنعم به من نعم كثيرة لا تعدُّ ولا تحصى .. وفي ذلك يقول محمود الورَّاق: إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً عليَّ له في مثلها يجب الشُّكرُ فكيف بلوغ الشُّكر إلَّا بفضله وإن طالت الأيَّام واتَّصل العمرُ إذا مُسَّ بالسَّرَّاء عمَّ سرورها وإن مسَّ بالضَّراء أعقبها الأجرُ وما منهما إلَّا له فيه نعمةٌ تضيق بها الأوهام والبرُّ والبحرُ وهذه الالتفاتة في شعر الورَّاق تحمل في طيَّاتها معاني الامتثال للقضاء والقدر والصَّبر المطلق على النَّوائب والنَّوازل، والشكر الدَّائم للخالق – جلَّ في علاه – على نعمه التي لا تعدُّ ولا تحصى، وأن المرء في خير في كل أحواله . وهذه الومضة في التُّراث الشِّعري تعكس ملمحا مضيئا حاول الشُّعراء أن يجلوا بعض جوانبه ، ويكشفوا شيئا من خفاياه . * الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية .