تحدث الناس عن (بوعزيزي) كرمز مُلهم لثورة تونس، وعن (حمزة الخطيب) كطفل مُلهم لثورة سوريا، وعن (خالد سعيد) كروح تسري في جسد الثورة المصرية، وأسماء عديدة في ليبيا، وأخرى في اليمن. حاولت النظم البائدة أن تُشوّه هؤلاء أمنيًا وأخلاقيًا؛ تعاطي مخدّر، علاقات مع بنات، أفعال محرّمة.. الأطفال وحدهم سَلِموا من التشويه لأن التهمة لا تلحقهم أصلًا! لنفترض أن ما أشاعته تلك الأجهزة -سيئة الذكر- صحيح! فلتحدثنا إذًا عن رجالاتها وقادتها، ولتكشف طرفًا من سلوكياتهم الشخصية والمالية والوظيفية! لنفترض أن ما قالته صحيح، فهل هي مسؤولة عن الجانب الأخلاقي في المجتمع؟ وهل هي تحاسب الناس جميعًا على هذا الأساس؟! أم هي تستدعي ملفات انتقائية لحاجة في نفسها (حاشا يعقوب منها!) ليكن ما روّجته صحيح؛ فهل حدوث زلّة من إنسان يحرمه حقه في الاحتجاج، والمطالبة بالإصلاح العام، والمشاركة في الحراك الايجابي؟ بل أكثر من ذلك: المشاركة في قيادة الحراك الايجابي. أليس في نصوص تراثنا تفضيل القوي الفاجر على الضعيف التقي في إدارة المواجهة؟ لأن التقوى والفجور شأن شخصي، والقوة أو الضعف هي محك الاختيار والنجاح في الإدارة والعمل والمسؤولية. هذه الرموز ومثلها كثير وملامح نشاهدها في موقع الحدث تعبر عن جانب من عفوية الحراك وشموليته، وأنه قدر المرحلة الذي لا يرد و(إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل). يجب على من يصبح في قمرة القيادة ألا يتنكر لهؤلاء، ولا يحول النجاحات إلى مكاسب خاصة، لتكون الثورة وَفيَّة لنفسها، مباعدة للأسباب التي أدت إلى حدوثها. مكاسب الثورة ليست لقيادات أحسنت استثمار الحدث، وليست لأحزاب بادرت بتأييد الثورة، بل ليست للثوار فحسب! مكاسب الثورة هي لكل الشعب دون استثناء، حتى لمن لم يؤيدوها وإذا آمنت ثورة بهذا المبدأ، فقد وضعت قدمها على طريق النهوض التاريخي، وليس التغييرات العابرة أو الشكلية. المعارضون القدامى للقذافي (كمثال) الذين قضوا أعمارهم في المهاجر غرباء، لا يجدون إلى هواء أوطانهم سبيلًا، وقد تقطعت أواصرهم مع أسرهم وأهليهم، وعاشوا مخاطرة مؤلمة، وحرمانًا طويلًا، وخوفًا من يد الطاغية التي تمتد إلى أماكن نائية بجبروت وقسوة، وتغتال في وضح النهار! المعارضون الذين خاضوا تجربة استثمار فرص سنحت من داخل النظام؛ لإجراء إصلاحات، وحفظ حقوق، ونشر معرفة، وافتكاك أسرى؛ لأن التعويل على خيار واحد ليس سدادًا ولا حكمة ولا حصافة. الذين انشقوا عن النظام، وأطلقوا الثورة تضامنًا مع دماء الشعب الزكية حين سالت انهارًا، ولو كانوا بالأمس من رجال النظام وأعوانه، وكم من وزير أو مسؤول يتعامل مع الواقع على مبدأ (جلب المصالح ودفع المفاسد). الذين سكتوا وانتظروا نهاية الصراع؛ لأنهم لا يريدون أن يتحملوا أي مخاطرة، وليس في برنامجهم أن يصنعوا بطولات، ولا أن يقدموا تضحيات، ولا أن يبنوا أمجادًا.. يريدون فقط أن يعيشوا بسلام، وأن ينعموا بالأمن والأمان، وأن يتمتعوا بطيبات ما أحل الله لهم. دعني اذهب أبعد من ذلك؛ إلى من قاتلوا مع النظام، ووقفوا معه ثم تخلوا عنه حين غلب عليهم ألا حظوظ تُذكر في بقائه، أليس من الحكمة أن نجعلهم يدركون أن مصالحهم الدنيوية هي أن يَتَخَلَّوْا عن النظام، وينحازوا للثورة التي هي ثورة الشعب الليبي كله، وفي ذلك تخفيف من نزيف الدم الليبي المسلم العربي، وحفاظ على الاستقرار المستقبلي، وسلامة من دوامات العنف التي ينجرّ إليها الناس عادة غِبَّ تلك الأحداث، وسَلٍّ لسخائم الصدور التي لا تكاد تنسى. وقد ينبتُ المرعَى على دمن الثرى وتبقى حزازاتُ النفوسِ كما هيا