انتقل إلى رحمة الله يوم السادس عشر من شهر ذي الحجة من عام 1432ه فضيلة الشيخ الداعية إلى الله مداوي بن علي آل جابر بعد معاناة من المرض لم تمهله طويلاً ولم تفقده حواسه ولا طاعاته ولا بره وإحسانه واهتمامه بمن حوله، وقد عشت مع فضيلة الشيخ مداوي - صهراً وتلميذاً في مدرسته - قرابة عشرين سنة ، وقبلها كنت متابعاً له وفرحاً برؤيته عند زياراته المتبادلة مع والدي حفظه الله حيث جمعهما هم الدعوة إلى الله وروح الأخوة الإيمانية التي لم تشبها شائبة دنيوية ، ولم يؤثر عليها تقادم السنين ولم يفسدها ما يواجهه الداعية من معاناة وترحال ومشقة ، ومن خلال هذه المعرفة المتدرجة من الطفولة حتى سن الكهولة أسجل بعض ما عرفته عن هذا الرجل ، وما سأتركه يمثل مجلدات من الكفاح والدعوة وطلب العلم وخدمة الدين والوطن وولاة الأمر. ولد الشيخ مداوي رحمه الله في إحدى القرى القريبة من مدينة أبها وتسمى قرضة ، وكانت أسرته من الأسر التي اهتمت بالعلم وخاصة علم الفرائض فيصدر الناس إليهم لقسمة المواريث وللاستفسار عن بعض أمور الدين التي تتعلق بيوميات الإنسان ومجرياته في تلك المنطقة ، وقد فقد الشيخ والديه في مرحلة مبكرة جداً إذ لم يبلغ السابعة حينها ، ولكنه يتسم بحدة الذكاء وقوة العزيمة وحب إثبات الذات فلم يستسلم الشاب مداوي للوضع القروي الذي يقتصر على الرعي والزراعة بل بمجرد أن سمع عن وجود عالم عظيم في أبها وهو الشيخ عبدالله بن يوسف الوابل الذي قدم لها قاضياً لم يهدأ له بال ولم يستقر على حال حتى ارتحل في تلك السن المبكرة للشيخ واتصل به ونهل من علمه حتى ارتوى وضرب بعطن ثم واصل رحلته في الطلب متجهاً لمدينة الرياض بعد أن صار شاباً مكتمل الشباب ليعود إليها بعد ما يزيد على خمس وخمسين سنة شيخاً مريضاً يئن تحت وطأة الشيخوخة ووهن المرض الذي أنهكه وليكتب الله له ميتة طيبة فيها حيث كان يحبها ويحب علماءها ومساجدها وليدفن في مقبرة النسيم بجوار مرقد شيخه عبدالله الوابل الذي لم يفتأ يذكره ويشكره ويكرمه ويكرم أولاده حتى فارق الحياة فنور الله ضريحيهما وطيب مرقديهما ورحمهما رحمة واسعة. ومن خصال الشيخ التي يتزين بها الكرم فقد كان منفقاً كريماً مضيافاً سلط ماله في إكرام الضيف وصلة الرحم والإحسان للضعفاء والمساكين ، وقد كان بيته مورداً للناس على اختلافهم يفرح رحمه الله إذا زاره زائر ولا ينصرف عنه إلا وقد أكرمه بأكثر مما يعهد من الإكرام ، ولا يكاد يسمع بعالم يفد للمنطقة إلا واتصل به ووصله وأحسن وفادته وجالسه أحسن المجالسة ، وكم زار مجلسه من الأمراء والعلماء والوجهاء والمسؤولين وعامة الناس، ومن شمائله التي يندر وجودها في هذا الزمان كثرة الدعاء والتضرع والانكسار بين يدي الله يمضي الأوقات الطويلة داعياً لله متضرعاً ، ولم يكن غريباً أن يرفع يديه في مجالسه ويدعو ويؤمن الحضور ، وكان كثير الدعاء لولي الأمر في عامة المجالس وخاصها وربما جمع أهل بيته ليدعو لولي الأمر بالسداد والتوفيق وللبلد بالحفظ والأمن لاسيما عند نزول النوازل بالأمة ، وقبل وأثناء المواسم كالحج وعند الحروب والثورات التي ألمّت بالعالم الإسلامي، أذكر أنه كان يجمع أسرته كلهم ذكوراً وإناثاً صغاراً وكباراً عصر كل يوم جمعة فيقرأون سورة الكهف ثم يجمعهم ويدعو وهم يؤمنون وربما زاد ذلك الدعاء على ساعة كاملة ، فكانت ساعة روحانية من ساعات الاستجابة ّ. (للحديث بقية)