لعمرك ما الرزية فقد مال ولا فرس يموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت بموته خلق كثير هكذا هو لسان الحال، عندما فقد الوطن أحد رجالاته، ممّن كانت لهم اليد الطولى في ترسيخ أركان هذا الكيان، ووضعوا بصمتهم الواضحة في بناء حضارته. كيف لا يبكي الوطن على فقد مَن كان في خدمته لأكثر من ستين عامًا، وتدرج في مناصب عدة، أعلم يقينًا أن البعض سيندهش إذا سردتها، ولكنها عزيمة الرجال المخلصين، والتوجه التام لخدمة البلاد والإخلاص الذي يعد أنموذجًا يُقتدى ومثالاً يُحتذى. فبداية دخوله للحياة السياسية -رحمه الله- كانت في عام 1362ه عندما عيّنه والده الملك عبدالعزيز -رحمه الله- رئيسًا على الحرس الملكي. وفي 1 ربيع الآخر 1366ه عُيّن أميرًا على منطقة الرياض. وبعد وفاه والده، وتولّي أخيه الملك سعود -رحمه الله- الحكم عُيّن في 18 ربيع الآخر 1373 ه وزيرًا للزراعة والمياه، وفي 20 ربيع الأول 1375ه عُيّن وزيرًا للمواصلات، وظل بالمنصب حتى 1 ربيع الآخر 1380ه . وفي 3 جمادى الآخرة 1382ه عُيّن وزيرًا الدفاع والطيران والمفتش العام، وهي الوزارة التي توفي وهو على رأسها. وبعد وفاة الملك خالد بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- 20/8/1402ه وتولي أخيه فهد بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- الحكم عُيّن نائبًا ثانيًا لرئيس مجلس الوزراء بالإضافة إلى مسؤوليته كوزير للدفاع. وبعد وفاة الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- في 26/6/1426ه، وتولي أخيه عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -رعاه الله- للحكم عُيّن وليًّا للعهد ونائبًا أولاً لرئيس مجلس الوزراء. كم هي حافلة بالعطاء مثل هذه السيرة، تولٍّ لإمارة، ثم لوزارات عدّة كان منها وزارات هو مَن أسسها -رحمه الله- كوزارة الزراعة والمياه. حياة لا تعرف الكلل أو المَلل، إنجازات متوالية، وريادات متعددة، يفخر بها الوطن، ويعتز بها المواطن، وبخاصة عندما تأتي من إنسان في مثل قامة سلطان. وعندما أقول يبكيه الإنسان فهذا يبدو لي أنه قد اتضح بعد سرد شيء من سيرته السياسية الحافلة بالعطاء، ولكن ربما يتساءل عن معنى تبكيه الأوطان، فهنا لابد من ذكر توالي يده المعطاءة بالخير ليس في هذا الوطن، بل لأوطان أخرى في مصر واليمن ودول مجاورة، وبعض الدول الإفريقية والأوروبية، فهو لا يكل من عمل الخير، ولا يمل من بذل كفه بالندى، فمستشفى هنا، ومركز لغسيل الكلى هناك، إلى تشييد طريق في دولة مجاورة، إلى بناء مساجد، وغير ذلك ممّا يصعب حصره، ويستحيل استقصاؤه، حتى أُطلق عليه -رحمه الله- (سلطان الخير). وها هو الإنسان يفقد رمزًا من رموز الإنسانية، وها هي الأوطان تبكي سلطان الخير، وتذكره بكل خير، داعية له الرحمن بالمغفرة والرضوان، وحُقّ لها أن تبكي، غير أنها لا تقول إلاّ ما يُرضي بارئها، فالقلب يحزن، والعين تدمع، والجميع على فراقك يا سلطان لمحزونون. ولسان الجميع الابتهال إلى المولى جلت قدرته أن ينضّر روحه، وينوّر ضريحه، ويجعله في أعلى جنات الخلد، (إنا لله وإنا إليه راجعون).