* المخزون الأثريّ الحجر أو مدائن صالح من الأماكن الأثرية التي يمكن أن يطلق عليها المتحف المفتوح، حيث تبلغ مساحة المنطقة الأثرية 13.39 كم، في الحجر أو (مدائن صالح) آثار قائمة وأخرى تنتظر الكشف عنها. والآثار القديمة في الحجر تتمثل في أماكن العبادة والنقوش الصخرية التي تركها الأقوام المتعاقبة وهي آثار لا حدود لجمالها. ويبلغ عدد المدافن أو القبور أو الواجهات الصخرية المنقوشة بمدائن صالح 131 واجهةً ويقع معظمها في الفترة من العام الأول قبل الميلاد إلى العام 75 ميلادية، وهي تحمل ملامح فنية رائعة وغاية في الجمال فالمقبرة عند أصحاب الحجر لصاحبها وأسرته جيلًا بعد جيل كما نحت أعلاها لوحة سجل عليها وصيته وأن هذه المقبرة تخصه وتخص عائلته وما يشاهده الزائر في مدائن صالح سيشده إلى عوالم لا نهاية لجمالها وسوف نتعرض للحديث عن أبرز المعالم في الحجر أو مدائن صالح: أ قصر الفريد: تعدّ هذه المقبرة النبطية من أبرز وأجمل وأضخم المقابر المتوزعة في مدائن صالح، تقع في الجهة الجنوبيةالشرقية من الحجر، وسميت ب «قصر الفريد» لانفرادها بكتلة صخرية مستقلة ومنفردة عن باقي المقابر التي تنتظم في مجموعات مختلفة. أ 1 المقبرة من الخارج: ومما يزيدها تفردًا واجهتها المنحوتة في الجهة الشمالية من الكتلة الصخرية بعرض يقترب من 14م، فهي إضافة لكبر حجمها فإنها تزخر بعناصر معمارية جمالية لا حدود لروعتها، وذلك بالنظر للإمكانات الكبيرة التي تم توظيفها عند النحت، فعلى جانبيها عمودان بارزان بتاج نبطي، تعد من الإضافات التي منحت الواجهة ميزة أخرى عن غيرها من المقابر، ويعلو هذه الأعمدة واجهة المقبرة الأفقية المكونة من العارض والكورنيش الكلاسيكي والفاصل بين الأجزاء العلوية والسفلية والشريط ثم نصفي الشرفة بدرجاتها الخمس، ويبدو جليًا أن النحات أكمل الدرجة الأولى العلوية بالنصف الأيسر بقطعتين من الحجر ليكمل الدرجة الخامسة وذلك بقصد تحقيق التوازن بين نصفي الشرفة يمينًا ويسارًا. ولم يقيّض لهذه المقبرة أن يكتمل بناؤها من الأسفل وكذلك أمام المدخل الذي نقشت عليه عبارة موجزة تقول (من أجل حيان بن كوزا وذريته)، في إشارة واضحة إلى اسم صاحب المقبرة، وفيما يعزو البعض عدم اكتمال بعض أجزاء القصر الفريد إلى أن عملية النحت تمت في مرحلة متأخرة، فإنه لا يمكن الاعتداد علميًا بهذا الرأي لاسيما وأن المقبرة غير مؤرخة. أ 2 المقبرة من الداخل: ورغم ضخامة قصر الفريد وتميزه من الخارج إلا أن المشهد من داخل المقبرة يبدو غير متناغم مع الخارج، حيث ثمة حيّز مساحي صغير ومحدود وذو شكل مربع. ب مجموعة قصر البنت: تعتبر هذه المجموعة من أجمل المعالم النبطية في مدائن صالح، فهي حافلة بالعناصر الجمالية والفنية التي تشهد لأولئك القوم ببلوغ درجة متقدمة في فنون النحت والأسس المعمارية الراقية. وتقع غرب ما يعرف ب «الديوان»، وتستمد تسميتها من خيال أسطوري ذي طابع شفهي يتداوله بعض العامة لا يستند لإطار علمي أو تاريخي. ب 1 المقابر من الخارج: وتكتنز هذه المجموعة 31 مقبرة نبطية تتوزع على جبلين أحدهما كبير تحتل المقابر الواجهات الغربيةوالجنوبيةوالشرقية منه، وفي الجهة الشمالية الغربية منه يقع الجبل الصغير الذي نحتت في واجهته الشرقية مقبرتان متوازيتان. وفي الجهة الغربية من هذه المجموعة توجد مقبرة غير مكتملة، حيث بدأ النحات بنحت الجزء العلوي وهي الشرفات ولم يكمل بقية الواجهة، ولو أكملت هذه الواجهة لكانت أضخم واجهة في الحجر (مدائن صالح)، وذلك لانحدارها المهيب من علو يقترب من سفح الجبل، حيث لا يفصل الشرفة عن قمته سوى أمتار قليلة. كما تنتظم في هذه الجهة ثلاث واجهات لمقابر متساوية ومتشابهة في سماتها الفنية لتتناغم في مشهد أخّاذ وبديع. وتشكّل هذه الواجهة وثيقة حية للدارسين وللبحث الأركيولوجي على نحو خاص، نظير ما تزخر به من نقوش نحتت على مداخل وواجهات المقابر تشير إلى أن أغلب المقابر في هذه المنطقة تميزت بوجود كتابة أعلى المدخل تحمل اسم صاحب المقبرة، ومن يحق لهم الدفن فيها وتاريخ نحتها والنحات الذي نحتها، وتشي هذه النقوش بالكثير من الجوانب التي تعكس حياة الأنباط وممارساتهم وملوكهم وما إلى ذلك. وعلى الرغم من أن هذه المجموعة ليست الأكثر من حيث عدد المقابر، إلا أنها تختزل الكثير من معالم الجمال النبطي الذي وصل لدرجات متقدمة في فنون النحت، فإلى جانب الشرفة بدرجاتها الخمس والعارض النبطي يمكن مشاهدة التأنق في تصميم الواجهة المثلثة التي نحت على زواياها آنيتان وفي المنتصف طائر النسر، وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن تلمح نحتا دائريا لوجه بشري يجاوره ثعبانان من جهتيه اليمنى واليسرى، وكذلك نحت لأسدين متحاذيين ومتقابلين تفصلهما عن بعضهما زهرة واحدة إلى جانب الأشكال الزخرفية الأخرى كالتاج النبطي. ب 2 المقابر من الداخل: مقابر هذه المجموعة متفاوتة في حيّزها، وتأخذ أبعادًا مختلفة أغلبها مربعة الشكل، تحتوي على كوات وأرفف حجرية على عدة طبقات وتتوزع بعض المدافن على أرضيات المقابر، ويلاحظ أن بعض المدافن المحفورة في الصخر عميقة بحيث يجعلنا نرجح أنها حفرت لتتسع لأكثر من ميت، كما أن القبور تختلف في أحجامها أيضًا. ج منطقة الخريمات: تضم هذه المنطقة مخزونًا أثريًا كبيرًا، إذ يبلغ عدد المقابر المنحوتة في الصخر 53 مقبرة تتوزع على مجموعة من الكتل الصخرية التي أصطلح على تسميتها ب «الخريمات». وتقع هذه المنطقة إلى الغرب من خط سكة حديد الحجاز الذي يخترق مدائن صالح وإلى الشمال مما يعرف «بقصر الصانع». والسمة البارزة فيها هو تنوع العناصر الزخرفية وتعدد الطرز المعمارية والتصاميم الخاصة بالواجهات الصخرية، كما أن الواجهات المنحوتة متفاوتة في هذا الجانب بشكل لافت، ففي الوقت الذي نجد بعضها يخلو تماما من الزخرفة والتفنن نجد أيضا مقبرة أخرى، هي المقبرة التي تحمل رقم (100) حسب الترقيم الذي وضعته بعثة المعهد الجغرافي الفرنسي التي زارت مدائن صالح في مرحلة سابقة حيث تكتنز هذه المقبرة بالكثير من المعالم الجمالية التي تتمثل بإضافات معمارية جديدة كالأعمدة الأربعة التي تحمل التيجان المنتظمة في تناسق أخّاذ وبحيّز هندسي يتوسّط شريطين فاصلين أحدهما يعلو المدخل والآخر أسفل الشرفة العلوية. وفيما تتوزع المدافن في داخل المقابر كما في المجموعات الأخرى، فإن الواجهات في هذه المنطقة بعضها تتزين بنصف الشرفتين وأخرى بالشرفات الكاملة. وثمّة واجهات صخرية تزدان بالتصاميم غير المألوفة في المقابر الأخرى، كنحت حيوانين مجنحين برؤوس آدمية عوضا عن نحت النسر والآنيتين في مثيلاتها من المقابر، كما يتضح جليّا تأثّر أجزاء من هذه الواجهات بعوامل التعرية. د مجموعة مقابر المنطقة ج: يرمز لهذه المجموعة بالحرف (ج) وفقًا للترقيم الذي وضعه المعهد الجغرافي الفرنسي، وتقع وسط المنطقة الأثرية إلى الجنوب الغربي من مجموعة قصر البنت. وتتوزع المقابر التي يبلغ عددها 19 على كتلتين صخريتين، وتحفل مقابر المجموعة بتشكيل الزهرات،كما في المقبرة رقم (119) التي تتألف من الشرفة بدرجاتها الخمس من الجهتين ثم الشريط الفاصل ثم نحت جمالي لزهرتين خماسية الأوراق في الجهتين اليمنى واليسرى من الواجهة الصخرية، ويمكن ملاحظة التنوع والاختلاف بين كل مقبرة وأخرى تبعًا لتنوع الأشكال واختلاف العناصر المعمارية فيها، إلا أن الطابع العام يأخذ نسقًا عمرانيًا متقاربًا. ه مجموعة مقابر المنطقة أ: تقع هذه المجموعة شمال مجموعة قصر البنت بمحاذاة البئر النبطي، وتضم 14 مقبرة نبطية تتوزع على ثلاثة جبال منفصلة عن بعضها البعض.وتستمد المجموعة هذا الترميز من ترقيم المعهد الجغرافي الفرنسي، ويطلق عليها البعض منطقة جبل المحجر، نسبة للجبل الشرقي من المجموعة والذي أظهرت بعض الدراسات الأركيولوجية/ الأثرية وجود محجر في طرفه الجنوبي يستخدم في قطع الحجارة المستخدمة لأغراض التشييد والبناء. وعلى الرغم من تفاوت أشكال وأحجام وأبعاد المقابر فيها إلا أنها تمتلك نسقًا متقاربًا في واجهاتها التي تخلو من كثرة التفصيلات الجمالية، وتعد من أقلّ الواجهات تميزًا عمرانيًا مقارنة بغيرها. وهو ما سوّغ لبعض الدارسين أن يذهب للقول بأن هذه المجموعة قد امتلكها العامة من الأنباط الأقل حظوة، فأتت مقابرهم متواضعة تبعًا لتواضع إمكاناتهم المادية. وقصر الصانع: تقع هذه المنطقة الأثرية في الجنوب من موقع مدائن صالح، إلى الشمال من منطقة الخريمات، وتسمية المجموعة محلية لا تخضع لأساس علمي، وتتكون من كتلتين صخريتين إحداهما شرقية تحوي ست مقابر نبطية تنزع إلى البساطة في عملية النحت، أما الكتلة الصخرية الغربية فتتفرد بمقبرة قصر الصانع فقط، والتي يعود تاريخها بحسب النقش الموجود عليها إلى شهر ابريل من العام الميلادي الثامن، والواجهة مترعة بعناصر الزخرفة والتصميم الجمالية، وتتوزع المدافن من الداخل على أرضية المقبرة وجوانبها. ز الديوان: وهو التسمية المحلية للمعبد النبطي الواقع في الجهة الشمالية من جبل إثلب الذي يحتل الجزء الشرقي من مدائن صالح، وهو عبارة عن حيّز مساحي منحوت في الصخر على شكل مستطيل يبلغ طوله 12.8 م وعرضه 9.8 ويصل ارتفاعه إلى 8م تقريبًا، استخدم هذا المكان لممارسة الطقوس الدينية المتعارف عليها بين هؤلاء القوم، وخصّصت كتلة حجرية مرتفعة بقرابة المتر ونصف المتر عن الأرضية في الفناء الداخلي للمعبد متصلة ببعضها البعض من ثلاث جهات ولها درج يؤدي لها منحوت على جانبي المدخل الذي ينتصب على جانبيه عمودان كبيران يحملان تاجين نبطيين. ومن أمام المدخل يوجد ممر جبلي ضيّق يخترق كتلتي الجبلين، ويشبه إلى حد ما ممر (السيق) في البتراء العاصمة الأولى للأنباط والذي هو عبارة عن طريق ضيّق ذي جوانب شاهقة في علوّها والتي بالكاد تسمح بمرور أشعة الشمس بكل ما يضفيه ذلك من طابع دراماتيكي ليؤدي مباشرة للميدان الذي يضمّ الخزنة الشهيرة، ويبدو أن أنباط الحجر حاولوا تقليد السيق مع اختلاف تقتضيه وتفرضه طبيعة الجبل وتكوينه. ح معالم أخرى: بالإضافة إلى ما تقدّم، فإن ثمّة مكوّنات أثرية أخرى من ضمن المخزون الأثري في الحجر أو مدائن صالح، وسنتطرق للحديث عن أهمها فيما يلي: ح 1 قصر العجوز: تسمية محلية للكتلة الصخرية المستقلة وسط الرمال بالقرب من منطقة قصر البنت، وهي ذات واجهة شمالية، وبداخلها كوّات ومدافن صخرية جداريّة. ح 2 الآبار النبطيّة: اهتم الأنباط على نحو كبير بنظم وهندسة المياه، وعثر في الحجر على الكثير من آبار المياه بعضها منحوت في الصخر، ومن أكبرها البئر الواقع في شمال الحجر بالقرب من جبل المحجر، سخّر الأنباط له مجرى مائي في الجبل لتنحدر المياه عبره إلى داخل البئر. ووجد في جبل إثلب صهريج مائي ضخم مستطيل الشكل، تجلب المياه له بواسطة قناتين منحوتتين بالجبل نفسه. ح 3 جبل إثلب: يحفل هذا الجبل الذي يضم الديوان بالعديد من المحاريب والمعابد المختلفة في أشكالها وأحجامها ورموزها، كما يزخر بالنقوش وفي سفح الجبل توجد مجموعة من الكتابات القديمة. * الحجر والأنباط أيّا كان حجم الحضارات التي تعاقبت على موقع الحجر (مدائن صالح)، فإن الشواهد الأثرية القائمة للأنباط في هذا المكان، تمثل وجها مهما من أوجه الحضارة الإنسانية، بوصفها سطرًا حيًّا، يقرأ اللاحقون فيه الجهد المتواصل لإنسان ذلك العصر في إثبات حضوره، وقدرته على مسايرة واقعه، وإبراز هويته، وإبداع وسائله، للمضيّ في حياته. في الحجر (مدائن صالح) عزف الأنباط سيمفونيتهم التي تنداح ظلالها بين أرصفة الحجارة المنتشية بتشكيلاتها الهندسية البديعة والمتدثرة بروعة الحضارة النبطية التي امتدت دولتهم لتشمل أجزاء من شمال الجزيرة العربية إلى جنوب الشام وضمت فلسطين والأردن وسوريا خلال الفترة ما بين (400 ق.م - 106م) وكانت لهم حاضرتان هما سلع أو البتراء في الشمال والحجر في الجنوب، خلفوا فيها كنوزًا أثرية / تاريخية هائلة نتيجة للازدهار الذي شهدته مملكتهم بسبب هيمنتهم وتوسطهم على الطريق التجاري الذي تنقل فيه البضائع الرائجة في اقتصاديات العالم القديم بين جنوب الجزيرة العربية حتى البحر الأحمر، ووصولًا إلى الشام ومصر والأمصار الأخرى، وليتنامى الوجود النبطي الذي يحتفظ المكان إلى الآن بأدلة شاخصة تجسد العمق والأبعاد التي خلّفتها تلك الحضارة واستنادًا لعدد من المصادر فقد واجه الأنباط جملة من المشاكل السياسية والاقتصادية، وخصوصًا مع الإمبراطورية الرومانية والتي استطاعت بالفعل إسقاطها في عام 106م. في الطريق إلى مدائن صالح «الحِجر» تستعيد من ذاكرتك أناشيد الأماكن التاريخية وملامح صمودها في وجه تصاريف الزمن.. وتنجذب لتاريخ ثريّ حافل بالعراقة المتميزة وبروعة شواهد الأمس البعيد ومعالم العصور الغابرة. في مدائن صالح تتوقف الأعين أمام حيز مكاني تضاريسي يأبى أن ينكشف للزائر منذ أول وهلة لينجلي رويدًا.. رويدًا، على مهل وفي استحياء شديد كاشفًا في كل مرة من تجلياته عن معالم باهرة ومفاتن جديدة، تشعرك بالفعل أنك في «مدينة» ليست ككلّ المدن وأمام معلم استوفى من الأسرار ما لا تكفي معه أيام ولا شهور لسبر كنهه أو الغوص في أعماقه واستجلاء أسراره. في موقع الحجر (مدائن صالح) التاريخي تلتحف أسارير الزمن بشموخ الجبال المتوشحة باللون الزاهي والذي سرعان ما يكتسب ألوانًا أكثر زهوًا بعد أن تغتسل بأشعة الشمس، تلك الجبال التي تقف بسفوحها لتقصّ على الناظرين ما سطّره إنسان الجزيرة القديم. ولتصوّر تفرّد تلك الحضارة الحافلة بالنبوغ في المناحي العمرانية والثقافية والتجارية. ويبقى التاريخ صامدًا ولسان حاله يقول: حاوروني واسألوا «الأمكنة»، إنها أمامكم لن تضنّ عليكم بإجابة استنطقوا كل شيء عن الماضي وتفاصيل حياة إنسان الجزيرة العربية في عصور ما قبل الميلاد.