حتماً أن ما جرى على أرض سوريا وليبيا واليمن، وقبلها في تونس ومصر، من الأرض الغربية، سيظل يوحي لمحلل الأحداث بالكثير من العبر، فالعوامل التي أدت إليه لا أظن أحداً يحتاج إلى مزيد ذكاء ليكتشفها، مما نال الشعوب في هذه من قمع ومظالم، كانت نتيجته الحتمية ما حدث من تململ واعتراض صريح على مظالم لم تعد الشعوب تحتمل قسوتها، أو كما يحلل الدكتور محمد صالح المسفر في مقالة له في جريدة «الشرق» القطرية في 23/8/2011م، حيث يقول: (أن أسس مصيبة هذه الأمة هو الحاكم العربي، الذي لم يدرك أو لا يريد أن يدرك بأن الشعب العربي لم يعد يحتمل ممارسات الحاكم وزبانيته، هذا الشعب الذي صنع تاريخاً للإنسانية عبر العصور، إلى أن جاء الحاكم الأناني المستبد، وعبث بكرامة الأمة وقيمها، وحولها إلى تابع لا حول له ولا قوة)، ثم سرد الأمثلة على ما يقول بذكر ما تمر به الأقطار العربية الثلاثة (سوريا وليبيا واليمن)، إلا أنه عنون مقالته هذه بعبارة تقول: (احذروا تكرار سقيفة بني ساعدة) ولا تبين مقالته الصلة بين العنوان ومضمون المقالة، وحتماً لا صلة لحدث سقيفة بني ساعدة بما يحدث في الأقطار الثلاثة من قريب أو بعيد، ولكنها العادة لدى بعض مثقفينا العرب، أن يحاولوا تشويه الماضي بأبشع صور الحاضر، وإن لم يكن بينهما صلة، وهذا الحدث التاريخي في صدر تاريخ المسلمين، والذي انتهى بتوافق بين صانعيه على تولية سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة، وهو حدث وقع في زمن مختلف تحكمه معرفة وثقافة مختلفة، ومهما حاول احد ان يجعل من هذا الحدث سبباً في ما مرت به الامة المسلمة بعده من أحداث جسام أو فتن، أوتسلط على الحكم من قبل من لا يصلحون له، هو في حقيقة الأمر واهم، فإن الاختيار لأبي بكر رضي الله عنه لم يعتمد على نص مقدس بعينه للمهمة، إلا أنه قد تم بتوافق لم يكن متاحاً سواه، وأما أن يسقط عليه ما يحدث في عصرنا من ألوان الاستبداد فهو جهل تام بما كانت عليه الأحوال حين وقوعه، فإسقاط أحداث الماضي على الحاضر، واسقاط الحاضر على الماضي، والحكم عليهما عبر هذا الاسقاط، إنما يعني عدم إدراك للواقع التاريخي والآخر المعاش اليوم ولكن عصرنا هذا ابتلي فيه بعض من المثقفين بالتناقض، حينما يدعون تحليل الأوضاع، ومنهم أخونا الدكتور المسفر، فهو يرجع ما حدث في الأقطار العربية من احتجاجات على ألوان من الظلم إلى عوامل داخلية، وأخرى خارجية، ولم يدرك أن من ينادي برفع الظلم عن كاهل من يقع عليهم من الشعوب، من خارج هذه الأوطان لا يمكن ان تكون مناداته العامل الحاسب الذي بسببه ارتفعت اصوات الشعوب بطلب الحرية والكرامة، كما أنه لا يمكن لأي مظلوم أن يعادي من ينصره، حتى ولو كان عدواً له في الماضي، فالاشارة الى الخارج في هذه الحالة لا يعني سوى تحميل الضحية ذنباً لم تأتيه ولم يقع منها، وكراهية هذا الخارج، خاصة اذا كان يعني دولاً ذات تاريخ استعماري بغيض، لا يعني ان تدخلها الا نقف مع المظلوم من اخواننا وان كان ظالمه من جنسه او عرقه، والاسوأ فعلاً ان يناصر المثقف شعباً مظلوماً، ويقف في ذات الوقت ضد شعب مظلوم اخر، لان هواه معه، يوافقه ايديولوجياً، فيصمت عن ظلمه بل ويبرره، فتسمعه يتحدث دون حياء عن مواقف لهذا الظالم موهومة في ممانعة لا اثر لها، او مقاومة لم تحدث منه قط، وينسى ان المبادئ لا تتجزأ ابداً، فمن يؤمن بأن الشعوب يجب ان تنال حريتها وان يعيش افرادها وجماعاتها بكرامة. لا يتخير منها ما يقف معه، واخر يقف ضده، والذي يعترض صارخاً على احتلال ارض شعب حر مسالم، لا يمكنه في ذات الوقت ان يؤيد محتلاً اخر وان حاول تبرير ذلك بانه الاقرب، او انه يشارك الشعب المحتل في دين او عرق، فظلم ذوي القربى اشد الماً، وقد آن الاوان لمثقفينا ان يراجعوا مواقفهم بجدية، والابتعاد كلية عن مثل هذه المواقف المتناقضة، فالمثقف الذي يحترم نفسه والذي يؤمن بان الحرية والكرامة حق لكل الشعوب في ارجاء هذه الارض، لا يمكنه ابداً ان يبرر فقدهما في بلد، ويعترض على هذا الفقد في بلد آخر، فالكيل بمكيالين الذي يردده الاعلام العربي زمناً ليس باليسير هو اليوم فعل عدد لا يستهان به من حملة الاقلام واصحاب الرؤى السياسية يمارسونه علناً ولا يخجلون، فها هو الموقف مما يحدث على الارض في سوريا من قمع شديد واعتداء سافر على الارواح بسلاح كان المفترض ان يدافع عن المواطنين، فاذا به تنهك عن طريقه حقوقهم، ورغم ما في ذلك من باشعة نجد بعضاً من مثقفينا يغضون الطرف عنه، بل ان البعض اخذ يبرر ما يحدث، ويطلق المزاعم بأن ما يحدث انما هو مواجهة لخارجين على القانون مسلحين، بل لعله يبالغ فيزعم انه فعل بعض من ينتمون الى القاعدة او الجماعات الاسلامية المتشددة، وليس لديه معلومات حقيقية بان هذا يحدث فعلاً، وانما يردد ما يطلقه النظام الظالم، فانما يدعوه الى ذلك ايمانه ايديولجياً بافكار هذا النظام المستبد او ذاك، فهل يدرك هؤلاء ما وقعوا فيه من التناقض؟! هو ما نرجو والله ولي التوفيق.