المحكم في المعنى اللغوي يشمل ثلاثة معانٍ: أولًا: أن هذا المحكم محفوظ لا يمكن تغييره ولا تبديله فتقول: هذا شيء محكم أي: ليس بمنسوخ فهو ثابت لا يمكن تغييره ولا استبداله. ثانيًا: الواضح البين المفسَّر الذي ليس فيه غموض ولا خفاء. فهذه المحكمات مع كونها ثابتة مستمرة؛ فإنها واضحة ظاهرة سهلة الفهم، سهلة القبول، سهلة التلقين لعامة الناس. ثالثًا: كون هذه المحكمات أصولًا ثابتة، ومراجع ترجع إليها الفروع، ويعاد إليها ما خرج منها؛ فهي أصول ثابتة يتفرع عنها أشياء أخرى. فهذه المحكمات التي نطلب أن يكون الاتفاق عليها وليس على غيرها هي المسائل الواضحة البينة الأصلية التي جاءت بها الشريعة الربانية، وأجمع عليها الصحابة - رضي الله عنهم - والسلف الصالحون من وجوب عبادة الله - عز وجل- وتحريم الكفر والشرك والنفاق، وتحريم الظلم والربا والفواحش، ومن أركان الإسلام الخمسة المعروفة، وأصول الإيمان الستة المعروفة، وقواعد الأخلاق التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وسلم-بل جاء بها الأنبياء كلهم كوجوب الصدق، وتحريم الكذب ووجوب العدل وتحريم الظلم، ووجوب البر وتحريم العقوق، وما أشبه ذلك. ومن ذلك جوامع المنهيات الثابتة في القرآن والسنة كما في حديث السبع الموبقات وغيرها. ويتحقق من خلال هذه المحكمات أمران عظيمان: الأول: المحافظة على الدين، على الإيمان بالله تعالى والملائكة والكتب والرسل والنبيين والإيمان بالقدر والإيمان بالجنة والنار وما يتعلق بذلك كله، والمحافظة على طاعة الله -عز وجل-، بتطلب رضى الله- تعالى- عن المسلم في الدنيا، وتحقيق النجاة في الدار الآخرة من النار ودخول الجنة. وهذا يتحقق للمؤمنين المسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، وهم الذين يتحقق لهم هذا الأمر على سبيل التحقيق، ولا يتحقق لغيرهم. الثاني: المحافظة على الدنيا، وهذا ما يعبر عنه العلماء والأصوليون بحفظ الضروريات الخمس التي لا بد من حفظها وهي: حفظ الدين، وحفظ العرض، وحفظ المال، وحفظ النفس، وحفظ العقل. وكل الأوامر الشرعية والنواهي؛ فهي تدور حول تحقيق هذه الأشياء الخمسة. وهذه الأشياء تتحقق للمؤمنين ولطوائف من غير المؤمنين ممن عمتهم رحمة الإسلام كالذين يقعون تحت سلطة الإسلام أو يدفع الله - تعالى - عنهم بالإسلام بعض الضرر، والتاريخ زاخر بالأخبار كما قال سعد بن محمد بن الصيفي المعروف بحيص بيص: ملكْنا فكان العفو منّا سجيةً فلما ملكتم سال بالدم أبطحُ ومن أمثلة المحكمات ما رواه الترمذي وحسنه والبيهقي عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه- أنه قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه؛ فليقرأ هذه الآيات (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).