لا يختلف أهل العلم على أن الحكمة العليا من الصيام ليست الجوع والعطش وترك الشهوة بل هي تحقيق التقوى في النفس المسلمة، يقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ويستلزم تحقيق التقوى في نفس المسلم قبل كل شيء مراقبة الله في السر والعلن في كل حركة وسكنة بل وفي كل خلجة فؤاد، والإقبال على فعل الخيرات وترك المحرمات والتعامل بين الناس بمثل روح المراقبة تلك، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه )، فرمضان بمثابة دورة إيمانية مكثفة تتدرج بالمسلم في مراتب التقوى من بداية الشهر الذي أوله رحمة تصفد فيه مردة الشاطين إعانة للمسلم على الخير وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، حتى يبلغ المسلم وهو في ترقٍ تدريجي ليكون مهيأً لنفحات قمة العطاء الرباني في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ليتخرج من هذه الدورة الإيمانية العملية وهو إلى الله أقرب وبرسوله أكثر تأسياً واقتداءً وللقرآن الكريم أكثر معايشة وتفاعلاً وبسلوك أخلاقي أجمل وأرقى. ولا بد للمسلم من قبيل الشكر والامتنان أن يقابل كل هذا الخير والعون الرباني بقبول حسن وأن يري الله من نفسه ما يحب، والناس يتفاوتون في ذلك فثمة الفائزون الذين ما فتئوا يستعدون لشهر الصيام حتى قبل حلوله فهم لا يزالون في تنفل من رجب وشعبان، وثمة من شمروا عن سواعدهم مع دخول رمضان ليجتهدوا قدر الإمكان ليوافق صيامهم هيئة صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحاكي أخلاقهم أخلاقه في شهر الصيام حيث كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيعارضه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. رواه البخاري، وثمة مقصرون مفرطون منكبون على لهو الحديث قال عنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح (رغم أنف أمرئ أدرك رمضان ولم يغفر له). وهنا قد ينبري بعض «المتعصرنين» للاحتجاج على الذين يحنون إلى ماضي الأمجاد الرمضانية وإلى صورة رمضان حتى في الماضي القريب ويسمونهم بالطلليين على رأي عنترة العبسي فيما تداركه على شعراء زمانه: هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم، والحقيقة غير ذلك فصيام رمضان في الماضي حتى القريب منه كان بالفعل أكثر روحانية و أقرب لتحقيق الحكمة الربانية من الصيام، فعصر العولمة والفضائيات أصبح يفرض تحديات جديدة وقاسية في دنيا الناس لا يكاد ينجو من متلازماتها أحد إلا من رحم ربي وقليل ما هم، مما جعل الإحساس برمضان أقل نكهة إن جاز التعبير وأكثر تشتتاً مع أن الشهر المبارك هو هو الشهر فيه كل الخيرات الرحمات والبركات والنفحات الربانية التي حباها الله للأجيال السابقة واللاحقة ومن بينها تصفيد مردة الشياطين والجن ليتفرغ المؤمن للعبادة، لكنّ صوارف وملهيات ومشتتات عصر العولمة والفضائيات أكثر من أن تحصى، فوتيرة الحياة ذاتها أصبحت أكثر تسارعاً من أي وقت مضى لا يكاد يستطيع المرء أن يستمتع بمتع الحياة وطيباتها فيما بينهما، والملهيات كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر شبكة الإنترنت التي يمكن أن يتسمر المسلم أمام شاشتها بالساعات الطوال دون الإحساس بقيمة الوقت الثمين ربما في تصفح ما هو مفيد وجيد لكنه بالمقابل سيقتطع من أوقات كانت يمكن أن تخصص للإستغفار وللدعاء والإنابة وقراءة القرآن، هذا ناهيك عن الظهور التلقائي للصور والدعايات المحرمة بين الفينة والفينة حتى على الصفحات البريئة، وأما جهاز الهاتف الجوال فعلى الرغم من فوائده الجمة فكثيراً ما يقتحم على المصلين مساجدهم وهم خاشعين لله رب العالمين وقد يجبرهم على سماع نغمات الموسيقى في بيوت الله مختلطة بترتيل القرآن العظيم. ومما لا ريب فيه أن من أكبر منغصات رمضان في زمن العولمة ذلك الحشد الهائل من المسلسلات التلفزيونية ما بين كوميدية و تاريخية و درامية و مسابقات ... إلخ، التي لا يتورع البعض منها عن الإستهزاء بالدين وتصوير الملتزمين به بأبشع الصور المقززة حتى زعم البعض منها بأن طول اللحية مقياس لدخول البلاد ؟!، ولست أدري ما الرابط بين شهر رمضان المبارك و الأعمال «الفنية» التي يغلب على الكثير منها الإسفاف والاستخفاف بعقول المتلقين والإساءة للصورة الحقيقية للمجتمعات العربية المسلمة ناهيك عن أنها في غالبيتها الساحقة لا تكاد تخلو من المناظر المحرمة شرعاً التي تخدش الحياء ومن الطروحات المخالفة للوحي المنزل، تبثها ما يزيد عن 700 فضائية عربية. إن خير ما يمكن أن يتعامل به المسلم المحب لربه ولرسوله صلى الله عليه و سلم مع هذه المسلسلات هو الإعراض عنها ومقاطعتها قلبياً وعملياً وتهميشها في حياته الرمضانية بل ومقاطعة الفضائيات التي تبث ما يمكن اعتباره تعمد الإساءة للقيم الدينية، والإقبال ضمن برنامج تعبدي مخطط له على موائد القرآن والحرص على الصلوات الخمس جماعة في المساجد وصلاة التراويح والإكثار من الذكر والاستغفار، ولو قاطع الناس المسلسلات «الرمضانية» لما وجدت رواجاً. فنتعبد الله أيها المسلم بالإقبال عليه والإعراض عن لهو الحديث، وكل عام وأنتم بمليار خير.
للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (42) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain