الله سبحانه وتعالى خلقنا وأوجد فينا حب الذات، ولكن على درجات متفاوتة، فالبعض منا لديه هذا الحب على درجة خفيفة، والبعض منا على درجة أعلى من الخفيفة، والبعض الآخر موجود فيه حب الذات بدرجة كبيرة إلى حد أنه يعميه، فلا يرى هذا الكون إلا ملك له وحده، وليس غيره، وأنه هو فقط له الحق بالحصول والاستحواذ على كل شيء، والآخرون ليس لهم حق بذلك، وقديمًا يقال لهذه النوعية من البشر: بأن «الأنفس بنات عم»، أي أن مثل ما تريد وتحب لنفسك فإن أنفس الآخرين تريد مثلك، أي أن نفسك ونفس الآخر بنات عم، وفقًا لذلك المثل الشعبي. فالبعض منا، نحن معشر البشر، نخوض حربًا ضروسًا اسمها حب الذات الدافع دائمًا إلى الاستحواذ على كل شيء على حساب الآخرين وتهميشهم، بل قد يؤدي بنا إلى نفي الآخر من الأرض. إذن حب الذات شيء طبيعي، ولكن زيادة هذا الحب عن حده الطبيعي هو الدافع إلى مرض القلوب المُسمَّى الحسد، الذي يجعل الشخص أنانيًا في طبعه وممارساته مع الآخرين، وقديمًا أيضًا قيل: «لولا الحسد ما مات أحد»، فالحسد بالفعل هو مرض نفسي يُؤثِّر على القلوب ويُعرِّض الشخص لأمراض نفسية تؤدي إلى أمراض جسمية، قد تودي بحياة الشخص وعلى رأسها أمراض القلب والأزمات القلبية. فنحن معشر البشر عندما نرى نعم الله على خلقه، الذي جلت قدرته يعطي نعمه لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء يجب علينا أن نقول: اللهم ارزقنا مثلما رزقتهم، وليس اللهم ارزقنا ولا ترزقهم. ففي علم النفس يقول العلماء: إن هناك تأثيرًا للعقل على الجسم، وهناك أيضًا تأثير للجسم على العقل، وسوف أورد مثلًا عن كيف يؤثر العقل على الجسم، فالشخص الذي يتعرض لضغوط نفسية في البيئة المحيطة به: من ضغوط في العمل، أو في البيت، أو في المدرسة، أو في الشارع، أو في الكلية أو الجامعة أو غيرها من المواقف، ولا يستطيع التعامل معها بشكل سوي، أو يطلب مساعدة المتخصصين في علم النفس العلاجي، فإن تلك الضغوط النفسية قد تدفع بالشخص إلى تعاطي الخمور، على سبيل المثال، لإزالة فقط الأعراض إزالة مؤقتة، تزول بزوال المؤثر، الذي هو الكحول، وليس إزالة الأسباب إزالة جذرية، التي أدت إلى تلك الضغوط النفسية، ولكن ما الذي سوف يحصل عندما تدفع تلك الضغوط النفسية الشخص لتعاطي الكحول؟! الإجابة هي أنه سوف يتعرض إلى أمراض جسمية تتمثل بتشمع الكبد والقرحة والأمراض القلبية وغيرها من الأمراض الجسمية. إذن رأينا كيف أن العقل يؤثر على الجسم، ولننظر إلى الكيفية التي يؤثر فيها الجسم على العقل، ولنأخذ مثلًا واحدًا، فلو قال الطبيب لأي شخص بعد فحوصات دقيقة أنك مصاب بالسرطان والعياذ بالله، أو بمرض نقص المناعة المكتسبة «الإيدز»، فإن حالته النفسية سوف تكون سيئة جدًا، فالخبر لا يسر وإصابته بمرض نفسي أمر وارد بدون أدنى شك وأوله الاكتئاب. إذن رأينا كيف أن الجسم عندما يصاب بمرض فإنه يؤثر على العقل. الله جلت قدرته خلقنا في أحسن تقويم وأوجد فينا جسمًا وعقلًا لا يمكن لأي أحد أن يتعامل مع الجسم وعلاته بعيدًا عن العقل، ولا يمكن في الوقت ذاته أن يتعامل مع العقل وآفاته بعيدًا عن الجسم، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان كل متكامل عقل وجسم، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض. هذه هي المعادلة الصعبة التي لا يفهمها من لديه قلب مغلف بالحسد. سوف نأخذ في هذا المقال جزئية واحدة فقط تجسد لنا حب الذات الذي يدفع بالشخص إلى الحسد والأنانية، ولنأخذها في محيط العمل، وكيف أن مسؤولًا ممتلئًا قلبه بالحسد اؤتمن على عمل من أجل تسييره على أكمل وجه، وفي الوقت ذاته الرفع من الإنتاجية الذي لا يمكن تحقيقه في أي منشأة إلا عندما تتعامل مع المرؤوسين معاملة إنسانية، وأن تكون مصلحًا اجتماعيًا وليس فقط مسؤولًا تطبق الأنظمة المرعية. إذن من أجل الرفع من الإنتاجية فإن عليك أن تتعامل مع المرؤوسين معاملة عادلة راقية بعيدًا عن الحسد والتحيز لمصالحك الشخصية. فليس من المنطق أن تحصل على جميع امتيازات الوظيفة التي تشغلها وتحسد غيرك من المنتجين من امتيازات وظائفهم التي يشغلونها، إما عن طريق تطفيشهم والتنغيص على مصدر رزقهم وأولادهم، أو تلفيق التهم عليهم، وتصيّد أخطائهم كونهم أحسن منك إنتاجية، وأكثر منك فهمًا في العمل وتطويره، أو أكثر منك خبرة أو علمًا، وبالتالي يشكلون خطورة على الكرسي الذي تعتليه ولو أن هذا الكرسي الذي تعتليه لو دام لغيرك لما أتى إليك. هذه النوعية من المسؤولين موجودة في مجتمعنا وابتلانا الله بهم. يريد من المرؤوسين أن يأتوا على الوقت، وينتجون ويحرمهم من الترقيات والانتدابات وخارج الدوام إلى غيرها من الحوافز، جميعها بدافع الحسد، وكأنه يدفع من جيبه الخاص، أو أن المصلحة التي يديرها ملكًا له ورثها عن أبيه، وليست مؤسسة تابعة للمجتمع الذي وظّفه من أجل تسيير عملها، أي أنه أجير عند المجتمع، كان من المفترض أن يدير تلك المصلحة بكل اقتدار، وأن لا ينغص على أفراد المجتمع عيشتهم ومصدر رزقهم، لأنها قمة الوقاحة وقلة الحياء ابتزاز الناس في معيشتهم ودخولهم المادية. أحد أهم أعمدة الفساد الإداري، الذي يؤدي إلى فساد مالي، هو هذه النوعية من المسؤولين، الذين إذا تضامنوا وتكاتفوا على الشر مع البعض من المسؤولين عن الشؤون المالية والإدارية، الذين يتحكمون بالمال وبالوظائف في أي مصلحة كانت، فإن الكارثة تقع على هؤلاء المرؤوسين الذين لا حول لهم ولا قوة. الشيء الغريب والمضحك والمحيّر في الوقت ذاته أن بعض المسؤولين عن الشؤون المالية والإدارية يعظون وينصحون وينهون عن الفساد، وهم على رأس القائمة، فالبعض منهم يتحدث عن الفساد وهو من أتى بقريبه في وظيفة حرم فيها موظفًا مستحقًا للترقية، وأتى بأصحابه وزملائه وأصدقائه ووظَّفهم عنده لكي تكتمل الشلة، فهم من يكسرون الأنظمة المالية والإدارية، وهم من يستحوذون على جميع امتيازات وظائفهم ويتكلمون عن الفساد، والبعض الآخر سيارات الدولة يعطيها لكل من يخدمه، أو يصرفها له ولأقاربه، ولكن قد يقول قائل: إن التقنية كشفت أولئك المسؤولين، فعندما تضغط على زر الحاسب سوف تجد أنه لا يملك إلا سيارة أو اثنتين، ولكن واقع الحال يقول لنا: إنه صرفها لنفسه بأسماء موظفين في دائرته أو بأسماء المستخدمين أو السائقين!! أما البعض الآخر من المسؤولين، فإن المجتمع الذي وظّفهم يطلب منهم إيجاد وظائف لأبناء المجتمع، أو التوسع في القبول في الجامعات، ويتقاعس، بل لن يتردد في طلب تأجيل تلك الطلبات، ووضعها في الدرج، فالحسد أعمى بصره وبصيرته، فالوظيفة وامتيازاتها أوجدت له ولأولاده ولأقاربه وأحبابه، أما بقية خلق الله فليس لهم نصيب. بالطبع معظم هذه الفئة من المسؤولين أتوا بالواسطة وليس بالكفاءة والخبرة، منطبقًا عليهم المثل الشعبي القائل: «يعطي الحلق للي ما لهم آذان». نخلص إلى القول بالدعاء إلى الله العلي القدير، في هذا الشهر الفضيل، الذي فيه ليلة خير من ألف شهر، والذي جلَّت قدرته يربط الشياطين في هذا الشهر المبارك، ويفتح أبواب جناته ويغلق أبواب جهنم، أن يبعد عنَّا مرض القلوب «الحسد وظلم الناس والأنانية وحب الذات»، وأن يُرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، ويُرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وأن يُعيد علينا رمضان أعوامًا عديدة، بأمن واستقرار وصحة وعافية ورخاء وازدهار، إنه سميع مجيب الدعوات. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (29) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain