اهتزت دوائر التفكير الوطنية إثر مفاجأة كبرى شهدتها قناة الرسالة عبر برنامج النفس والحياة حول قيادة المرأة للسيارة عندما أعلن الدكتور طارق الحبيب درجة المواطنة المقدرة لمواطني المنطقتين الجنوبية والشمالية من المملكة وفق قياساته الخاصة به وبمدرسته في تصنيف المواطنة لتتفق مع مفهومه الخاص، بعد أن أفرغها من مضمونها الحقيقي وملأها بمضمون نشاز، حتى أنه بدا أكثر ضعفًا ويدعو للشفقة وهو يفسر هذه الوطنية ومحكاتها وكأنه يتحدث عن وطنية لا يعرفها المواطن السعودي المتحقق والمنغرس في تاريخ وظروف وطنه، فوطنية المواطن في الجنوب والشمال قياسا على بقية المناطق مهترئة في حدود عقل الحبيب وتسير على قوانينه وأحكامه التهويمية وتصوراته المرتبكة وتبتعد عن مركزية الوطن وتقترب من دول الجوار وتأنس لها على حساب الوطن الأصل. وفي ذلك دليل على أن الحبيب في حالة لا وعي وقد فتح ثغرة من حيث لا يعلم في نسقه النفسي والفكري وهو القائل: «آآه من الوطنية في السعودية، هذه الوطنية المبعثرة...» وقد تكشف لنا أن الحبيب انهار أمام غضب المجتمع بعد أن كابر ولاذ بحيل هروبية عديدة عززت المزيد من تهويماته ومحاولة التقليل من قدرات المجتمع في فهم ما يقال. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا لو كان صاحب هذه الإساءة من المصنفين مسبقا مثل: المزيني أو تركي الحمد أو الغذامي، أو الموسى أو الأمير أو حصة آل الشيخ أو حليمة مظفر.. على سبيل المثال؟ أين الوعاظ والدعاة ممن اكتسحوا القنوات بعد أن حرموها أين هم من مثل هذه الفرقة المعلنة والصريحة والداعية للتشتت؟ ومن المعلوم أن اتهام الحبيب قد وجهه أساسا لمواطني هاتين المنطقتين بعد تشكلهما التاريخي الناضج في اسم ومعنى الوطن ومدى تمثله في العقل والوجدان، وقد كان له بعض الإشارات في أن الوطنية بها ما بها وإن كان رأيه سوالف جلسة هوائية لم يحسبها ذكاؤه العفوي ولا يرقى رأيه هذا إلى مستوى الرؤية النقدية. ولعل الظروف قد سنحت لظهور اختصاصي نفسي يتفحص ويحلل شخصية الحبيب ودوافعه وظروفه التي حملته على هذا الفعل المشين، وانضباط إدراكاته وتصوراته ومدى تلبس الأوهام بآرائه وإسقاطاته النفسية المتهرئة، وهل تأثر فعلا من مرضاه من حيث لا يعلم وهل أضحت عيادته تمثل كل أطياف المجتمع ومنها تنبثق أفكاره؟ ولأننا نؤكد هذا الرأي لأن تجربتنا مع بعض اختصاصي علم النفس وأساتذته في الجامعة تجربة مريرة فلهم نسق عقلاني مرتبك ويدعون الجنون أحيانا حتى يقال عنهم انهم يحلقون في عالم المثل والآفاق العليا من الشفافية ويأتون بمصطلحات نفسية دقيقة ويسقطونها كيفما اتفق في ادعاء تام لامتلاك أدوات التفسير والتحليل ومعرفة مكامن الخلل في النفس الإنسانية والرفض المطلق لنزوات النفس العابرة والانفعالات اللحظية ويعلنون معرفتهم بدرجة سواء النفس وتصنيفها من حيث الصحة والمرض، ولو تتبعوا تراجعات عالم النفس المشهور (فرويد) لوجدوه قد تراجع في الكثير من أحكامه في تحليل النفس لأنه بناها من داخل عيادته وتغافل عالم الأسوياء. ويتسع خطأ الحبيب من حيث تركيزه على الجزء السلبي ويستحضره ويجسده ويجعل له الروافع المزيفة ويعلن وجوده دون توافر مصداق على الأرض يدعم نبوءاته المشئومة ثم يسقطه على مجتمع معين في بقعة جغرافية معينة وكأني به قد تعاطى مع مفهوم الوطنية بفكرة أو إحساس توحيها الكلمة المعطاة بالنسبة له في تجاهل تام أن الوطنية لا تقدم نفسها ولا أحد يقدمها للإنسان والتاريخ بما هو جزئي أو مؤقت وإنما هي كل متكامل. ومع كل هذا لا يعني أن الحبيب لم يكن محقا عندما دعا لتأصيل الوطنية فنحن نوافقه أن المواطنة لا تركز على الطقوس اللفظية والشعارات والمزايدات الإعلامية ورفع اللافتات وإظهار كفاءة الحناجر بل تتمثل في نقاء الضمير وإخلاصه واتساق الظاهر والباطن والانسكاب الحقيقي في كل شبر من ارض الوطن وانسجامه وتجانسه مع أشقائه المواطنين في نسيج نوعي واستراتيجي ليكون حب الوطن بالنسبة للجميع فلسفة استثنائية لا تنفصم عن وجوده الحقيقي ولنعلم حقيقة أن ارتخاء الوطنية لدى الإنسان يعني اغترابه وخروجه عن دائرة السواء وارتكابه جريمة الخيانة العظمى باعتبار العرف والقانون. الأمر الذي حدا بالمفكرين التحذير من خطر تحول الوطنية من أصلها ومعناها إلى شكليات أو انحرافها إلى دفاع عن المناطقية مثلما تنحرف الشخصية إلى فردية ويخشون من التفنن في إيجاد مغريات لاختلاق الأعذار وتقديم تنازلات تحت أي ظرف كان والتحذير من تخدير الشباب من الدعايات الملونة الخادعة التي تغرس الطابع الجزئي أو العرضي فالوطنية الحقة هي الحضور الكامل للإنسان بأعز وأثمن ما يملك بحال لا يقبل التجزئة أو التسويف وأي إنسان عندما يغيب مقصده الوطني الكلي ويفقد جزءا من مضمون اعتزازه ويغلب مصلحته الذاتية على مصلحة الوطن فقد تحول إلى ورم يرفضه جسم الوطن، وقد أثبتت الأحداث أن المواطن والحمد لله قد بدأ يعيش لحظات الوعي التاريخي لقيمة الوطن ويقدر الرسالة الوطنية واستحقاقات العصر واشتراطات النهضة الفكرية والتبصر الدائم بالأحداث الجارية والاستعداد للتعاطي مع نتائجها. يا دكتور طارق: نقدرك كرمز وطني لذلك سنستبعد ضعف قدراتك الإدراكية والخلط بين واقع ملموس وأوهام لا تعيش إلا في خيالك، ونستبعد أيضا أن الحال قد وصل بك إلى استبدال الشيء الحاضر بصورة وهمية تأخذ مكان الشيء الأصل ومعناه وسنكون أحسن منك هذه المرة ونبحث لك عن عذر معقول فنظن أنك لم توفق في توقعاتك الحسية فولدت لديك هذه الخرجات النفسية والفلتات الخاطئة ولن نعزف على وتر: إن كل انفجار ثقافي - كخطئك هذا - مسبوق بتعبئة أي بتضافر روافد ثقافية متعددة اجتمعت وولدت لنا هذا المخلوق المشوه وبخاصة أن هذه الإهانة الموجهة لأهل الشمال والجنوب لم تكن حركات أو إيماءات بل رأي صريح ولا يحتمل أي تأويل أو إساءة فهم ولو كابرنا واستدعينا كل قدراتنا المعرفية والماكرة وعبثنا بالزمان والمكان والإنسان لما استطعنا إلى ذلك سبيلا. *مشرف تربوي في تعليم