قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاما سألت الفقيه الدستوري د. فؤاد العطار- يرحمه الله-عن الفارق بين الثورة والانقلاب؟ ضحك الرجل قائلاً: إذا نجحت فهى ثورة وإن فشلت فهى إنقلاب!! وكان بالطبع يشير الى ثورات الخمسينيات والستينيات وكلها انقلابات عسكرية بدأت في سوريا بإنقلاب حسني الزعيم عام 1949 ، ولم تتوقف حتى إنقلاب موريتانيا قبل عامين، لكن قادتها أسقطوا عليها صفة الثورة. واختلطت على الشعوب المسميات بالمعايير، في منطقة لم تعرف ثورات شعبية حقيقية على مدى قرون طويلة. في الانقلابات العسكرية يكون الجيش هو صاحب المشروع السياسي وهو صاحب (الانقلاب/ الثورة)، حيث يمسك الجنرالات بأدوات السلطة لتنفيذ مشروعهم السياسي الانقلابي، أما في الثورات الشعبية، فإن الشعوب قد تستطيع اسقاط النظام،لكنها لا تمسك في التو بأدوات إحداث التغيير بعده، ولهذا كان السؤال في تونس ثم مصر بعد إسقاط النظامين هو: .. ثم ماذا بعد؟!.. من..؟سيفعل ماذا؟ ومن الذي سيفوضه؟ وما هو المدى الزمنى المنظور لإحداث التغيير الذي قامت الثورة من أجله؟ ولعل هذا الجهل بمقتضيات الاختلاف بين الثورة الشعبية وبين الانقلاب ، هو ما يؤرق الآن شوارع عربية خرجت جماهيرها منذ مطلع العام الجاري تطالب بإسقاط النظام، وحين سقط النظام انتابتهم الحيرة،فالشوارع التي اتحدت على هدف اسقاط النظام، تفرقت و تمزقت حول خيارات وأهداف ما بعد إسقاط النظام، وزاد من حيرتها وتمزقها ، أن القوى التي تسلمت إدارة الثورة في الحالين في تونس ومصر، لم تكن هى ذاتها القوى التي قامت بالثورة، أي أن المشروع الثوري قد أوكلت إدارته الى جهة غير معنية بالثورة، بل إنها ربما كانت بحسب طبيعتها ك «جيش» محترف اعتاد الانضباط، والتزم بالطاعة لقائده الأعلى ( الرئيس السابق في كل من مصر وتونس) وأقسم على حماية الدستور، تجد صعوبة في التعامل مع فكر ثوري ديناميكي،في حالة حركة، وتؤثر التعامل مع ما هو ثابت ومضمون لديها، ثم أنها لم تكن جزءا من الثورة التي استهدفت إحداث تغيير جذري،وقد تطالها بعض خططه او تنال منها بعض برامجه. المشكلة إذن أن من أوكلت اليه مهمة إدارة الثورة لم يكن هو صاحب مشروعها، وربما ألجأته الضرورات الى حمايتها،خشية أن ينفرط عقد وطن، يلتزم كل جيش وطني بحماية وحدته والحفاظ على سلامة أراضيه. اعتادت الجيوش أن تؤدي قسم الولاء للدستور وحمايته، لكنها فوجئت في الثورة بأن المطلوب منها هو إسقاط الدستور القائم،باعتباره جزءاً من نظام قديم ثار الشعب عليه ويسعى لتغييره، وتلك مفارقة أخرى تدع الجيوش في حيرة،فيما تسيطر الشكوك والهواجس على جماهير يخيفها ما تعتبره تردد العسكر في انجاز برامج الثورة. وحتى إذا أراد الجنرالات تلبية مطالب الثورة، فإنهم يجدون حرجا في التعرف على طبيعة تلك المطالب، ومن أي جهة خرجت وهل ثمة إجماع وطني عليها؟!! لهذه الأسباب ولغيرها تبدو الثورة من وجهة نظر العسكر الذين أوكلت اليهم ادارتها، مأزقا يتعين الخروج منه في أسرع وقت،وبأقل كلفة،بينما تحتفظ القوى الثورية في الشارع برؤية رومانسية حالمة، تزيد رومانسيتها بمقدار استمرار ابتعاد تلك القوى عن عملية ادارة التغيير الثوري. بين مأزق الجيوش، وحيرة الثوار، تنشأ فجوة ثقة، فالجيش يرى ثواراً تهدد حركتهم صميم هياكل ومؤسسات الدولة، والثوار يرون جيشاً يبدي تردداً في التقدم بخطى اسرع نحو إنجاز متطلبات الثورة ، سواء منها ما يتعلق بتصفية حسابات الماضي( محاكمات رموز النظام السابق)، أو بتبني رؤى وسياسات يظن الثوار أن ثمة إجماعا عليها، ويخشى الجنرالات أن تثير انقساماً مجتمعيا حولها هكذا يمكن قراءة المشهد الراهن،لكن ثمة مخرجاً بالتأكيد، يقتضي جملة إجراءات وتدابير تكفل انجاز مرحلة الانتقال الآمن من الثورة إلى الدولة لعل من بينها ما يلي: • اعتراف من الجيش الذي يديرالثورة بأنها « ثورة»،مع كل ما يستتبع هذا الاعتراف من نتائج منطقية تقتضي الانحياز للثورة والثوار ومحاسبة من أخطأوا بحقهم على نحو حاسم وفوري بما ينهي أي جدال ويرفع أي حرج وينهي كل شبهة • التزام الجيش ضمن برنامج واضح ومحدد بجدول زمني بنقل مسؤولية الحكم الى سلطة منتخبة ديموقراطيا . • أن يفرز الثوار هيئة ممثلة لكافة القوى المشاركة في الثورة، ويلتزم الجيش بخوض حوار معها في كل شأن وطني، تجنبا لخلافات تكررت بين الجيش وبين القوى الوطنية حول مراسيم لها قوة القانون يصدرها الجيش ثم يرفضها الثوار. • العمل لانهاء حالة الاحتقان بين تيارات سياسية ترى الظرف الراهن فرصة للإنقضاض على الحكم، وبين تيارات ترى الثورة فرصة لوضع قواعد جديدة للعبة السياسية، وهو ما يقتضي أولاً: ** التسليم بنتائج الاستفتاء، التي تجاوزها الاعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية. ** التوافق بين كافة القوى السياسية على مبادىء عامة حاكمة للدستور المقبل تستند الى ما يلي: أولاً: مبادىء الشريعة الإسلامية. ثانياً: المبادىء التي اشتملت عليها كافة المواثيق الدولية المتعلقة بكافة حقوق الانسان والتي صادقت عليها كافة البرلمانات المصرية منذ تاسيس الأممالمتحدة في عام 1945 وحتى الآن، فالثابت هو أن حجية المعاهدات الدولية التي صادق عليها البرلمان، تعلو حجية أي قانون داخلي، وهكذا فلا يجوز تضمين الدستور القادم ما يخالف مبادىء عامة تضمنتها معاهدات دولية صادقت عليها مصر. ** وهكذا فإن أحدا من القوى السياسية وحتى الجيش في مصر لا يختلف على أهمية الالتزام بالشريعة من جهة وبكافة المواثيق التي صادقت عليها مصر من جهة أخرى، ومن هنا يكون التوافق اسهل والالتزام به أوجب. ** تبني آلية من خلال التوافق ايضاً، تشتمل قواعد عامة لتمثيل كافة القوى والشرائح الوطنية في الجمعية التأسيسية التي سوف توكل اليها مهمة وضع الدستور الجديد للبلاد، تنطلق من مبدأ اساسي هو أن الدستور للوطن كله وليس لأغلبية سياسية معينة في ظرف تاريخي معين ، وتقوم على قاعدة المساواة في العدد وفق قاعدتين للتمثيل هما: - أولاً: التمثيل النوعي أو الفئوي، بمعنى أن تمثل كل فئة أو نوع او قوة سياسية مهما كان حجمها بعدد اثنين من الممثلين في الجمعية التأسيسية، وأن يمثل الأقباط بنسبة تساوي النسبة المئوية لعددهم مقارنة بعدد أعضاء الجمعية التأسيسية، وكذلك تمثل المرأة بنسبة مئوية تساوي حجم مشاركتها في قوة العمل (مثلاً). - ثانياً: التمثيل الجغرافي، بمعنى أن تمثل كافة محافظات مصر بعدد اثنين من الممثلين لكل محافظة مهما كان عدد سكانها. ما تقدم يمكن اعتباره مجرد تصور يؤكد حاجتنا الى خارطة طريق أولاً، والى اجراءات عملية لبناء الثقة، من شأنها تذليل كافة الصعاب خلال المرحلة الانتقالية، وتقليص المخاطر الكامنة خلال تلك المرحلة الأصعب على الإطلاق. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain