(1) بداية..فإني لازلت أزعم بأن لمعطيات الثقافة الخالصة الدور الفاعل في تشكيل المجتمعات تشكيلا إيجابا حضاريا,أوسلبيا رجعيا..نوع الثقافة التي يتبناها المجتمع تقوده إلى مفازات الرقي والرفاهية أو إلى مهالك التخلف والشقاء..وسواء أكانت الثقافة هي»الإلمام من كل علم وفن بطرف»أو هي»مجموعة القيم والأفكار التي تنبثق عن منهجيات التفكير العلمي الصحيح,لتجد في البحث الدائم المتحول عن الحقيقة بشروط الانفتاح المعرفي المتفاعل مع الثقافات الأخرى,والاحتفاء بتعددية الأفكار والرؤى,والعمل على إشاعة قيم الحق والخير والجمال بشواهد الدين والفضيلة والمعارف والفنون»أو أنها»الاستجابة المتحققة لمخرجات حضارة العالم الرقمي بمنطلقات العلوم النظرية الرئيسة»فإنها بكل تلك التجليات هي الثقافة التي قصدتها كعامل حاسم في تشكيل المجتمعات..ووسمتها (بالخالصة) تقديرا لمنطلقاتها الفكرية والمعرفية والفنية الصحية...الثقافة الخالصة! (2) ومادام الأمر على هذا النحو فإني أزعم-باللغة البحثية-وأؤكد-من منهج استنباطي للقراءة-بأن سبب كل مشكلاتنا وأزماتنا وانتكاساتنا المحلية هو تلاشي قيم تلك الثقافة الخالصة في الوعي الجمعي المتحكم في كل ممارساتنا ومخرجاتنا على أرض الواقع(التلاشي المستمر حد الاختفاء التام الذي ينعدم معه وجود طيف ما لثقافة خالصة في وعينا الجمعي!) (3) بالتأكيد فالدلائل كثيرة في مشاهد حياتنا ومؤسساتنا..(التعليم)على سبيل المثال,والذي يعاني من فقر مدقع في المخرجات المنتجة الصحيحة,يشمل كافة مكونات ذلك المشهد التعليمي(المؤسسة التعليمية الكبرى,وتفريعاتها الصغرى,والمدارس بما فيها من إداريين ومعلمين وتلاميذ,ومراكز الاشراف التربوي بمنسوبيها المشرفين والمراقبين) أقرب لكم الصورة بعدسة مكبرة..فلو نشأ تلاميذ المدارس في بيئة مثقفة لاقتنعوا بجدوى العملية التعليمية وقيمة من ينهض بها..ولما وجدنا مسؤولا كبيرا يدخل مهتاجا إلى مدرسة ويسأل عن(ثور) يزعم أنه اعتدى على ابنه,ولما التقينا بهؤلاء التلاميذ كل صباح بوجوه عابسة محبطة,لايمكن أن تقدم شيئا منتظرا لهذا الوطن المستحق..أليست المناهج التعليمية المدرسية جزءا رئيسا في كافة المعارف والآداب والعلوم..؟لأن مفردات تلك المناهج بمثابة المعلومات الأمبيريقية التي تكونت من مجموعها نظريات العلوم واتجاهات الفنون..ومن جهة أخرى فلو كانت غايات الثقافة ومعطياتها متجذرة في نفوس المعلمين أنفسهم لاستطاعوا أن يصلوا إلى العقول الناشئة بسهولة واقتناع وتأثير..ولعرفوا الغايات الكبرى لمناهجهم الدراسية,التي تمكنهم من تجاوز التحفيظ التلقيني لمعلومات بسيطة لصالح المضامين التي يفترض استكناه محتواها بتعمق ودراية.. (4) مثال آخر..الفساد الإداري المستشري في بعض من مؤسساتنا الحكومية,والذي أفضى إلى مشاريع متعطلة وحقوق منتهكة ومساكن أصبحت ضحية دائمة لانهمار السماء,وقضايا تمكث في أدراج المكاتب عقودا من الزمن لحاجات شتى في نفوس أشباه يعقوب!سببه بجلاء هو غياب الثقافة إياها مرة اخرى..الثقافة التي تحتفي بالأمم الناهضة بالعمل والانجاز,وتحث كل فرد أن يكون عنصرا فاعلا في منظومة وطن الحضارة..الثقافة التي يستشعر بها المواطن قيمة تاريخ وطنه وجغرافيته.. التي تستفز وجدانه ووعيه لأن يكون ذلك التاريخ لحظة دائمة تسابق أزمان الأوطان الأخرى لشواطئ الحضارة..وتستنفر كل طاقاته الانسانية والفكرية والعملية لإعمار تلك البقعة(الغالية) من جغرافيا الكون..إذا فالروح الوطنية المتقدة المتوهجة,تشعلها في الغالب ثقافة محفزة خلاقة..وإلا كانت الوطنية لدينا مختزلة فقط في أيام ومناسبات وحصص دراسية وصور نعلقها وأغانٍ نسمعها فحسب!. (5) ..كذلك,فهل يمكن لهؤلاء الفتية من أبنائنا أن يندرجوا في مسالك الإرهاب الذي تضررت منه هذه الأرض وإنسانها لو كانوا يتوفرون على قدر مقنع من تلك الثقافة الخالصة,التي تحتفي بالحوار وتتسامح مع الآخرين باختلاف طوائفهم وأجناسهم,وتنبذ الإقصاء والعنف,وتوجه إلى سنن التفكير العقلاني الذي يذهب في اتجاه معاكس عن قوى العاطفة الانفعالية المتشددة..(صحيح)إن هؤلاء الشباب المتطرف يمتلكون قدرا من العلم الشرعي الديني,ولكنهم مع ذلك وقعوا في مسارب القتل والعنف,لأنه لايوجد منهم شاب مثقف(بالشروط الثقافية الخالصة..إياها) فأرواحهم تقبع في عالم طيفي بعيد عن فضاءات المنهجيات العلمية الرصينة,والاتجاهات الأدبية والثقافية المتنوعة! (6) ..وبالنسبة للمرأة فهل لو كنا مجتمعا يوسم بتلك الثقافة الخالصة(لتغربلنا تلك الغربلة العجيبة) عندما نريد الخوض في كل شؤونها التي تطرأ متحولة بتغير الأزمان,من دراستها وعملها وسفرها ورياضتها وقيادتها..كل شأن للمرأة يشكل لنا مرتعا للفوضى والاختلاف..فقط لأننا نفتقر في هذا الأمر تحديدا للوعي الثقافي وللثقافة معا! (7) وهذا العنف الأسري الذي يمارس بحق الأطفال والزوجات,والذي تزايدت نسبته بشكل مخيف داخل مجتمعنا,هل يمكن أن نصادفه على عتبات البيوت لو كان مجتمعنا وفياً لتلك الثقافة الخالصة,من خلال معطياتها الأدبية والفنية التي تسمو بروح الانسان إلى آفاق شفافة من الجمال والعذوبة,لأن من يفعم وجدانه بسحر المفردات وإيقاع الألحان ودهشة الألوان لايمكن أن يكون عنيفا مع الآخرين,فضلا عن أقرب البشر إليه..(وفي هذه الأثناء فإن مجتمع الرحمة الذي عاشته بلادنا قبل أكثر من ثلاثة عقود لم يعد له في الغالب وجود آني(ها أنا اجتهدت في ذكر أهم الأسباب كما أرى)! (8) ولكن الأمر المؤرق في هذا الصدد أن تغيير منظومة الثقافة إلى هذه الثقافة الخالصة,أو إيجادها من العدم يحتاج إلى جهد كبير وشاق..لاينهض به أفراد بعينهم وإنما هو من شأن حركة مؤسساتية اجتماعية كلية توزع مهامها الثقافية النهضوية بالتكامل مع مؤسسات المجتمع وقطاعاته,بحيث أن كل الأعمال التي تنهض بها تلك المؤسسات تظل في اتساق وانسجام,بحيث لايلغي خطاب مؤسسة ما خطاب مؤسسة أخرى(كما هو الحال عندما تتناقض متنافرة خطابات المؤسسات الفكرية والثقافية والتعليمية والاجتماعية لدينا)! (9) الثقافة الخالصة تبدأ من الوعي بضرورة وجودها..فلنبدأ بالبحث عن ذلك الوعي الخلاق الذي يقنعنا بحتمية هذه الثقافة..وشروط إنتاجها.. [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (14) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain