من بين أهم الصفات والمزايا التي يتميز بها الكائن الإنساني أنه أكثر الكائنات ميلاً نحو « جمع « الأشياء؛ وهو ينحى في هذا الاتجاه منحى متطرفاً ينعدم وجوده عند الحيوانات والكائنات الأخرى التي تكتفي بجمع أشياء ضرورية وقليلة تكفيها لسد رمقها والحفاظ على وجودها ضمن المستويات الغريزية والبدائية التي تبقيها على قيد الحياة. إن النمل يجمع الغذاء ويدخره تحسباً لأية مجاعة طارئة قد تصيب مستعمرته الترابية, والقندس يكتفي بالأخشاب ليبني بواسطتها بيته على ضفة النهر, والطير يجمع القش المتساقط هنا وهناك ليشيد به عشه ويؤوي به فراخه, أما الحيوانات المفترسة فهي لا تكترث بقضية « الجمع « من أساسها وإنما تعتاش على صيد الطرائد واقتناص الفرائس, لأن أنيابها الحادة ومخالبها الدامية تؤمن لها القوة الفتاكة التي تستولي بها على الكائنات الأضعف بسهولة. ونجد أن الإنسان على عكس الحيوان قد بلغ مرحلة قصوى من عملية « الجمع « ولملمة الأشياء, فهو يكدس الملفات التي يحتاجها ولا يحتاجها ويضعها في الأقبية والحفر تحت الأرض وإن كساها الغبار هناك, وهو ايضا يحفظ الأطعمة ويكدسها في المخازن دون حاجة إليها في كثير من الأحيان, كما أنه يكدس الأموال ويدخرها حتى وإن لم ينفق عشر معشارها ( لا أحتاج أن أسرد قصصا مكرورة عن أموال بعض الزعماء العرب القارونية التي صودرت منهم مؤخرا ) وكذلك يكدس الإنسان المعلومات الضخمة والهائلة ويراكم الكتب بعضها فوق بعض ويحتفظ بالأوراق قديمها وجديدها, ولا نعدم أشخاصا احترفوا هوايات غريبة كجمع السيارات أو الباخرات أو السفر لدول عديدة لشراء عملات نادرة أو طوابع قديمة ومنقرضة! إن لصفة « الجمع « هذه ميزاتها الواضحة ومساوئها الأوضح: فالتراكمات لا تحدث إلا عبر تجميع طويل وتكديس منظم, ثم يتحول هذا الجمع إلى انفجار نوعي جديد يؤدي لمرحلة تطورية أخرى في حياة الإنسان, فالتعلم مثلاً يبدأ بحرف واحد ويمر بجملة وسطر وصفحة وكتاب وينتهي إلى وعي شامل بمقتضيات الوجود البشري, والتجارة تبدأ بفلس واحد وتتضاعف النقود القليلة عبر الكدح والعمل وعرض البضائع والبحث عن المشترين والزبائن والخوض في مقولة العرض والطلب, وكذلك عقل الإنسان نفسه لا ينمو ولا يكبر إلا بعد التراكم الفكري الذي يبدأ مع أولى سنوات الإدراك الطفولي. ولنقل مثل ذلك عن كافة السلوكيات البشرية المكتسبة التي تمر بخطوتها الأولى في سن الطفولة ولا تنتهي إلا في سن الممات وانقضاء الأجل. غير أن التجميع السلبي يخالف نظيره الإيجابي, فالرجل الجشع مثلاً يمتلك صفة التجميع « السلبي « مثل تخزين الأموال وحبسها في الأرصدة ليموت صاحب هذه الأموال ويورثها أبناءه بعد أن أطالوا الانتظار وحرموا من الحياة المادية التي يستحقونها, ومثله فإن السياسي المستبد سيقوده جشعه في جمع « القوة « إلى الوقوع في مزالق الاستبداد ومهاوي الانفراد بالسلطات ليجد نفسه وقد وصل إلى طريق مسدودة مع الجماهير الغاضبة, أيضاً فإن توهم جمع « التقوى « و « العبادة « والإسراف في اعتبار العبادات والطقوس الدينية على أنها معادلات رياضية كمية تتراكم كحسابات رقمية وتزيد من رصيد المؤمن عبر التطبيق فقط دون التأمل الروحي هو ضرب من ضروب « الجمع « السلبي, ولا ننسى أيضاً أن جمع الأصدقاء والمعجبين والمعارف المتناثرة في كل مكان هو شكل من الإسراف في العلاقات العامة والذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى التشتيت الذهني الكامل. ولا يمكن لموهبة الإنسان في « الجمع « أن تتوقف, إنه لن يكل ولن يمل من جمع النقود والكتب والأسلحة والمعجبين والحيوانات الأليفة, لكن السؤال كان يفترض به أن يتعلق أولاً وقبل كل شيء عن قدرة الإنسان عن « الجمع « وإلى أين ستصل, هل سنبلغ يوماً نستطيع فيه أن نؤمّن احتياجات البشر ضمن مستويات معقولة من الحياة الاقتصادية والسياسية السائغة؟ وهل يمكن لدول العالم الثالث أن تلحق بمسار العالم الأقوى منها اقتصادياً, العالم الذي « جمع « من الأموال والصناعات والتقنيات والمصارف المالية الشيء الكثير؟ إن هذا السؤال يهمنا نحن أبناء العرب في المقام الأول قبل أية أمة أخرى, فنحن أكثر الأمم امتلاكاً للثروات الطبيعية, ولكنها ثروات جمعها غيرنا وبددناها بأنفسنا على غير نفع. هذا « الجمع « ضمن سياقه العربي هو ما يحتاجه أبناء العرب في وقتهم العصيب هذا وفي زمن الثورات العربية الكبرى, فلا يهم جمع الأسلحة والقنابل أو الهوايات الصغيرة المتعلقة بشؤون الأفراد ورغباتهم الشخصية وما يفضلونه من أغان وأزياء وسيارات. إن « الجمع « في لونه العربي وتكوينه المرتبط بجغرافيتنا وثقافتنا الخاصة يجب أن يتجه نحو الغايات المدنية والحريات العامة وأن يكون ثمة تراكم واضح في تطوير هذه السياقات الخاصة بدولنا وشعوبنا, وإن إهدار موهبة « الجمع « في سياقات صغرى وجزئية لن يفيدنا في المدى الطويل, خصوصا وأن الدول الأخرى, لن أقول أمريكا وإسرائيل فقط ولكن سأضيف الصين والهند وكوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا والبرازيل وغيرها من الدول الصاعدة, هي كلها دول اتخذت من جمع « الطاقات « الإنسانية وسيلة لها نحو الخوض في حلبة الصراع العالمي في ظل تسابق مستمر نحو قيادة العالم واقتسام تركة أمريكا فيه, فهل سيُكتب للعرب قدر جديد حين يدركون موهبتهم الكامنة, أم أنهم سيتحولون إلى لقمة جديدة في أفواه هذه الدول الصاعدة؟ . [email protected] للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (28) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain