إن التجربة الإنسانية التي عبر عنها الشاعر سيف الجهني في باكورة إنتاجه «صهيل الجداول» غنية وزاخرة بالمعاني الرائعة التي تلامس الوجدان وتترك للقارئ مساحة من التأمل والتماهي معها بحيث يصل إلى المواطن المعشبة مما يضيف له الشيء الكثير. وقد عبر عن ذلك بلغة جميلة رشيقة تلتقطها القلوب فتتفاعل معها وابتعد عن الغريب تلمسًا منه لوضوح المعنى. ومما يحسب لهذا الديوان الصور الفنية الرائعة والمبتكرة التي لا يكاد يخلو نص منها وهو يدل على قدرة إبداعية جيدة سوف يكون لها مستقبل مشرق بإذن الله مع تعهدها بالقراءة والممارسة. ولعل اسم الديوان «صهيل الجداول» يستوقفنا فالصورة جميلة بما تحمله من فنية رائعة فالمشاعر كالجداول المنسابة بين الناس تتحول إلى خيول جامحة تصدر صهيلا يلفت الأنظار والقلوب. ومن الصور الأخرى قوله: (أيتها الساكنة في أحداق التعب) 9 و(أمل يعانق فضاء الامتداد) 31 (انصهار في عمق الألم) 39. وقد حمل الديوان روح الأمل فالشاعر لا يأس عنده مهما ألمت به المصاعب والضغوط فالأمل لا يموت والحال تتغير فكأنه يقوم بدور المصلح الذي يوجه ذاته بهذه الرسائل الإيجابية وينقلها بالتالي إلى الآخرين ليعيشوا في سعادة وأمان اسمعه يقول: (لحظات الفرح لا تخرج إلا من بوابات الحزن) 14 ويقول أيضًا: (التعب أبجدية ننطلق منها صوب مرافئ الفرح) 9 ويقول: (تبدأ خطوات الاحتراق تعلن عن ميلاد جزء من التعب والسرور) 19. وقد كتبت جميع نصوص الديوان على طريقة الشعر المنثور الذي لا وزن له ولا قافية إلا أن كاتبنا يصر على تسميته بالنشيد بقوله: (نشيد مليء بهمسات الحزن) 17، وفي موطن آخر (وتصبح الكلمات التي تخرج من مبسمي أنغام جميلة لها رنين خاص) 8. وقد احتوى على خمسة وثلاثين نصًّا وضعت عناوينه أخذا من جمل النصوص، يبدأ الكاتب رحلته من أحضان التعب وترسبات الواقع المضني الذي يشعر معه بقسوة الظروف وضياع الأحلام مندفعًا نحو لحظات الصفاء والهدوء التي ينشدها وهو يلخص لنا في هذا النص المحور الأساسي الذي قامت عليه جميع النصوص وهو الانطلاق من الآلام إلى السعادة المنشودة على قوارب حروفه الصادقة فالنصوص محاولة منه لإحداث التغيير ورسم البهجة وانتشال الغريق ومساعدة ذاته والآخرين للوصول إلى بوابات الفرح وذلك كما في (نبضة قلب)21 و(شموع الأنس) 19 و(وتبدد أنغام الحزن) 23 و(رحلتي في حواجز الصمت) 29 و(أمل يعانق فضاء الامتداد)31 (الوهج )33 (حلم) 41 و(همسة ترتاد فصول الربيع) 43 (تدفق شلالات الحب)45. وهو لا ينسى أن يشيد بكلماته المسافرة فهي الصادقة والرقيقة وهي لغة الارتياح التي ترسم أجمل لوحة وأحلى تعبير وأصدق كلمة تبحر عبر ربوع الأطياف ص74. وقد خاض تجارب كثيرة عبر عنها متكئا على المحور الأساس الذي أشرنا إليه وكأنه يريد بذلك أن يكون الطبيب الذي يقدم الخدمات النفسية له وللآخرين يمكن عرض بعض منها فيما يأتي: ففي نص (نشيد مليء بهمسات الحزن) ص 17 نص شاعري جدًّا يصف لنا من خلاله لحظات الحزن عندما تدفع المحاجر إلى التعبير عنها في صورة تنفعل معها القلوب إلا أنه لا يقف عند ذلك دون أن يندفع إلى محاولة الخروج من بوابات الأحزان إلى مدن الفرح. وفي نص (تجاوز الانكسار) 35 يصور لنا إحساس البعد وما يثيره من أشجان ومن ذلك قوله: (في ساعة البعد نعاني.. من رحيل الشمس عن مسارات الفرح نسكن لحظتها في وسط أجواء متعبة.. وغير مستقرة أحلام تفقد الاتزان ومساحة مجهولة.. يختفي منها النغم الشجي....) 35. ويأخذنا إلى إحساس فقد المرأة من تحب معبرًا عنها على طريقة نزار قباني عندما يعبر عن أحاسيس المرأة يقول في ذلك (تمر اللحظات ثقيلة أتوه معها.. أتساءل إلى متى يستمر الغياب؟ ثوان متأرجحة بين ذهول وذبول تائهة في الحقول اختلطت فيها الفصول) 25. وفي نص (من عمق الألم أناديك) 37 يناجي الحبيبة المنتظرة التي سوف تحمله من أسر الظلام إلى موانئ البهجة ويكشف فيه عن حاجة ملحة للزواج والاستقرار أومأ إلى ذلك دون أن يشير بأسلوب جميل. وفي نص (انصهار في عمق الألم) 39 يصور لنا لحظة جرح المشاعر عندما تصاب ولو بكلمة عابرة ومن ذلك قوله: (عندما يصيبك سهم طائش يجرح أحاسيسك تتمنى أن تحرق الكلام وتبحر بصمت دامع ومشاعر متفتتة...) 39. وفي نص (موت الأمل على الشفاه) 49 تصوير رائع للحظة الوداع وما تحمله من أشجان وآلام (الوداع.. نسيج من مشاعر تثير الكوامن.. فيحرك الأحاسيس الراكدة فتسرع الثواني لرفضه.. أو الابتعاد عن ذلك الواقع). وفي نصي (أيتها الساكنة في أحداق التعب) 9 و(وعودي لأيامك الجميلة) 89 يتجلى الإحساس الإنساني النبيل عندما يستشعر معاناة تلك المرأة الحزينة ويأخذ في مساعدتها لتتجاوز التعب والحواجز المؤلمة لكي تعود ملتهبة شوقا يدفعها الحنين إلى العيش في الواقع بصدق وقد حشد كثيرا من الصور الفنية المبتكرة كعادته لتأكيد المعنى. ونجد الكاتب في تضاعيف كثير من نصوصه باحثا عن الأمل وتوهجاته يأسره الحنين والرغبة في تحقيق ما يصبو إليه وحينا آخر باحثا عن الحب وبواعثه تدفعه الحاجة إلى الامتزاج في لقاء يطل بالأماني.. وفي ختام نصوصه (يا نسمة عطرة) يشاهد طفلا يلهو ببراءة بين أبويه فينثال الحنين وتأخذه الدموع لواقعه الذي لا يجد فيه لونا للسرور ولا طعما للسعادة فيطلب منه أن يأخذه معه في عالمه الجميل عالم الارتياح والسعادة وكأنه يستحضر تجربة الشاعر الكبير غازي القصيبي في قصيدته (هيا خذاني) (1) لابنيه التي منها: هاأنتما تلعبان وتارة تبكيان أما أنا فدموعي حبيسة في كياني وفي ختام هذه القراءة يمكن أن نحدد النتائج التالية: • الكاتب صادق مع ذاته في جميع ما كتب من النصوص مما جعلها أكثر إشراقة وقبول لدى القارئ فعامل الصدق في الإحساس من العوامل القوية المحركة للأحاسيس. • قدرة الكاتب الإبداعية على توليد الصور الفنية التي غذّى بها النصوص وإن مال إلى التكرار في بعض منها. • كشف لنا الكاتب أن لا يأس يتربع على ذاته مهما اشتدت المصاعب وتكالبت العوائق فالأمل موجود لا ينهزم مهما كان. • أدار النصوص على محور واحد فكأن النصوص تعضد بعضها وهو الانطلاق من الآلام إلى السعادة المنشودة على قوارب حروفه الصادقة، مما أوقعه في تكرار بعض الأفكار والصور والمفردات التي لا تقدم الجديد وإنما توقع في الملل في بعض منها. (2) _______________________ هوامش: (1) ينظر ديوان (أنت الرياض) في المجموعة الكاملة 523 ط 2 عام1408-1987 مطبوعات تهامة. (2) ينظر الصفحات في (صهيل الجداول) سيف الجهني ط1 عام 1429.