ثلاث نصائح مقتضبة، ومركّزة، وعميقة، تلقّاها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، في ذروة فضيحة أثارتها المتدربة اليهودية مونيكا لوينسكي، وأوشكت أن تطيح به، قال له مستشاره وخبير إدارة الأزمات لاني ديفيس: «قل الحقيقة مبكرًا.. قل الحقيقة كلّها.. قل الحقيقة بنفسك».. (Tell It Early , Tell It All, Tell It Your Self). كانت مشكلة الرأي العام الأمريكي مع كلينتون، ليس أنه مارس الفحشاء مع متدربة داخل المكتب البيضاوي، وإنما أنه كذب على الأمريكيين، أو على الأقل أخفى الحقيقة، واستخف بالرأي العام، وكانت مشكلة بيل كلينتون أن الوقت كان يفلت من بين يديه، فيما يبدي ترددًا في الاعتراف لشعبه، والإقرار بذنبه، وإفشاء الحقيقة. عنوان أزمة كلينتون إبان فضيحة مونيكا، هو ذاته عنوان كل أزمات الحكم في العالم الثالث تقريبًا، قد لا تكون خطايا القادة في العالم الثالث من نفس نوع خطيئة كلينتون، لكنّ دواءها هو نفس الدواء (المصداقية، والتوقيت) أي أن يصارح القادة شعوبهم بالحقيقة، وأن يفعلوا ذلك في أسرع وقت، ودون إبطاء. وفيما كان الكونجرس يتأهب لتبني قرار بعزل الرئيس كلينتون، خرج الرجل على شعبه في خطاب متلفز معلنًا الحقيقة كلها، واعتذر، واستطاع اجتياز الأزمة. ما فعله كلينتون قبل اثني عشر عامًا، ربما لامه كثيرون من حكام العالم الثالث عليه، فالأمر من وجهة نظرهم لا يستحق لا الاعتراف، ولا الاعتذار، وكثيرون منهم استطاعوا البقاء فوق مقاعدهم الوثيرة، رغم ارتكابهم خطايا أفدح بحق شعوبهم، وبحق مستقبل الأجيال القادمة في أوطانهم، ولهذا وغيره، هبّت رياح التغيير، وعصفت ببعض مَن ظنوا أن الاعتراف بالخطأ خطيئة، وأن الاعتذار للشعوب هوانٌ، وأن النزول على رغبة مواطنيهم منافٍ للكرامة، لكن كلينتون كان مدركًا أنه يعيش وشعبه عصر السموات المفتوحة، والبيوت الزجاجية، حيث لا يمكن إخفاء الحقيقة عن الناس طول الوقت، ولا يمكن خداعهم ولو لبعض الوقت. خطايا السياسة، وأخطاء الساسة إذن هي مَن مهدت الطريق أمام عواصف التغيير التي تهب على المنطقة العربية، في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وسوريا، بعدما طالت تلك الخطايا أهم ما يمس حياة مواطنيهم، وأمن أوطانهم، لكن أبرز خطايا الساسة على الإطلاق هي ما يمس فرص بقائهم هم أنفسهم، وقدرتهم على تصحيح الأخطاء، ومعالجة الأدواء، وهي قضايا تنحصر غالبًا في عنصرين على درجة بالغة من الأهمية، هما عنصر «التوقيت»، وعنصر «المصداقية». فالقرار المناسب لا يكون مناسبًا إلاّ إذا جاء في وقته، أو على الأقل لم يفت أوانه، واختيار التوقيت المناسب في السياسة يقتضي امتلاك أجهزة استشعار عن بُعد يُسمّونها لدى السياسيين «الحدس السياسي»، الذي يمكن من خلاله استشراف المشكلات، والتنبؤ بالأزمات مبكرًا قبل وقوعها، ثم ابتكار الحلول لمعالجة أسبابها، ثم التدخل في الوقت المناسب تمامًا- مبكرًا كلما أمكن- لإعلان تلك الحلول (السياسات والقرارات)، ثم -وهذا هو عنصر المصداقية- وضع تلك الحلول موضع التطبيق الفعلي دون زيادة أو نقصان. ولهذا يحتاج السياسي صاحب الحدس القوي إلى ساعة سياسية صارمة الانضباط، لضبط مواقيت الفعل السياسي، ثم يحتاج بعد ذلك إلى مطابقة ما يقول لما يفعل، لتعزيز الثقة وتأكيد المصداقية. دون هذين العنصرين لا تحقق قرارات الساسة تأثيرها، ولا تؤتي أُكلها، بل إن غياب هذين العنصرين قد يقود في النهاية إلى تغييب نظام سياسي تجاهل قائده أهمية التوقيت، أو لم يقرن القول بالفعل، فَفَقَد مصداقيته بين الناس، وهذا ما حدث في الحالتين التونسية والمصرية بوضوح، فقد أهمل الرئيس السابق بن علي عنصر التوقيت، ولم يتحدث إلى جماهيره في الوقت المناسب، ولم يفهم شعبه سوى متأخرًا، حتى أنه قالها في آخر خطاب قبل رحيله «الآن فهمتكم»!! نفس الخطأ وقع فيه النظام السابق في مصر، فقد وصل إلى عتبة الحدث متأخرًا جدًّا، واضطر كلّما رفع المتظاهرون سقف المطالب، إلى تعميق قاع التنازلات، وبدا أن وعوده لم تعد مقنعة لشعبه، بعدما فقد مصداقيته إثر عملية تزييف واسعة لأصوات الناخبين، ونتائج الانتخابات، وهكذا قاد سوء التوقيت، وغياب المصداقية إلى انهيار النظام السياسي بأكمله. غير أن ما يثير الدهشة هو أن خطايا النظامين في تونس ومصر توشك أن تتكرر بحذافيرها في بعض مناطق الفوران العربي الأخرى، حيث تأتي مبادرات الحل قليلة جدًّا.. بطيئة جدًَّا، فيما المصداقية ضعيفة، والثقة شبه غائبة. في الحالتين التونسية والمصرية بدا أن ثمة إمكانية لاعتراف مبكر من قِبل النظامين بأن الزمن قد تجاوزهما، وأن إيقاعهما لم يعد منسجمًا مع الإيقاع الشعبي العام، وأن وجهتهما ليست هى ذات وجهة شعوبهما، باختصار فقد اكتشف بن علي ومبارك، أن مرحلة كل منهما قد بلغت محطتها الأخيرة، وكان لدى كل منهما قدرٌ من شجاعة الانسحاب، أمّا فيما عدا ذلك في مناطق الفوران العربي الأخرى، فإن ثمة حالة عناد باهظة التكاليف زجّت بليبيا في أتون حرب أهلية، وتوشك أن تشعل مثلها في اليمن، وسوريا ما لم يتم تدارك الموقف بقرارات شجاعة، لا تتحدث عن إصلاح فات أوانه، وإنّما عن تغيير حانت ساعته. نصيحة لاني ديفيس للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون: «قل الحقيقة مبكرًا.. قلها كلها.. قلها بنفسك»، هذه النصيحة تستحق أن ينصت لها كلُّ مَن أخفقوا في اتخاذ القرار المناسب، في الوقت المناسب، فساعة التغيير ذات عقرب واحد فقط.. إنه عقرب الثواني. [email protected]