* هذا المبدأ على يسره إلا أنه يوقع في كثير من الوهم والإشكاليات * التسخير لا يعني أن الأرض تقدم نفسها هبة وإنما تقدم نفسها للباحث عنها مصطفى الحسن وصلتني كثير من التساؤلات حول مفهوم مركزية الإنسان، وعلاقتها بالعبادة، وتوهم تعارضها مع كون الله تعالى المقصود الأعظم.. وأحببت توضيحها لأنها من التصورات الأولية في الفكر الإسلامي.. وليست هي بالتصور الجديد.. لكنها تصور غائب عن أوساط محددة "منها التيار المحافظ في السعودية" لأسباب كثيرة ليس هذا مجال تفصيلها لي محاضرة عن مفهوم الاستخلاف موجودة على الانترنت على هذا الرابط http://www.youtube.com/watch?v=2Z9p577MrLU وسأختصر بعض المسائل كالتالي : الله تعالى هو المقصود الأعظم وهو غاية الغايات، ومنه تنطلق التصورات، وهو مركز الأكوان، ورب العالمين، أمرنا بالعبادة، " وما خلقت الجن والإنس وإلا ليعبدون "، والعبادة لغة هي التذلل والخضوع.. ومنها الطريق المعبد أي المذلل. من المهم أن نلاحظ هنا أن لفظة "العبادة "لا تتضمن الكيفية، بمعنى أن آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء أمروا جميعا بالعبادة، لكن كيفيات العبادة اختلفت من شريعة إلى أخرى، فكوننا مأمورون بالعبادة لا يعني أننا مأمورون بكيفيات محددة، وهذا المبدأ على يسره إلا أنه يوقع في كثير من الوهم والإشكاليات، ومن هنا ينشأ توهم التعارض بين " الاستخلاف " و "إعمار الأرض" و "مركزية الإنسان " وغيرها من المفاهيم.. ومفهوم " العبادة ". إذن أمرنا الله تعالى بالعبادة، ولذلك أرسل الرسل عليهم السلام، لكن إذا كانت العبادة هي غاية الخلق، فما هو غاية خلق آدم على هذه الأرض؟ بمعنى ما المقصود من جعل الابتلاء أي الاختبار في (عالم الشهادة) الذي يشمل كل ما يمكن أن يدركه الإنسان بحواسه أو عقله؟ لماذا كان المكان هو الأرض وكان الزمان هو التاريخ الممتد? ما الحكمة من طبيعة ميدان الاختبار هذا؟ ألم يكن من الممكن أن يجمع الله الخلق في صعيد واحد، فيأمرنا وينهانا، فيدخل من أطاع الجنة ومن عصى النار! هذا يعود بنا إلى أصل الخلق لمعرفة الحكمة من ربط الإنسان المأمور بالعبادة بالأرض أو بعالم الشهادة بعموم.. هنا نصل لمفهوم الاستخلاف، أي إعمار الأرض، والارتقاء بها، وهو معنى العمل الصالح الوارد في كثير من الآيات، فالصلاح ضد الفساد، يقال أصلح الطعام وأفسد النبات وهكذا، ولذلك تعلق الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بالإيمان والعمل الصالح في كثير من الآيات. وإتماما لعملية الاستخلاف جعل الله تعالى الكون مسخرا للإنسان، والتسخير معناه الخدمة دون مقابل، فالأرض والشمس تعطي الإنسان من خيراتها دون النظر لشكره أو كفره، ودون النظر لطبيعة استخدامه، بمعنى أنه لو قام إنسان بشتم الكون والتضجر منه فلن يؤثر ذلك على تسخير الكون له، ولو استخرج إنسان معادن الأرض لصنع سلاح " يسفك الدماء" فلن يؤثر ذلك أيضا، فالأرض تقدم خيارتها للإنسان لكونه "الخليفة" ولا أثر لصلاح الإنسان وفساده في التسخير كذلك، ف " النفط" تحت أرض الجزيرة العربية قبل آلاف السنين، لم يتفجر لخير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أخرجه الباحث الغربي في العصر الحديث، بمعنى أن التسخير لا يعني أن الأرض تقدم نفسها هبة، وإنما تقدم نفسها للباحث عنها، وقد تقوم الساعة وفي الكون من الطاقة أكثر مما عرفه الإنسان. الكون مسخر للإنسان ليقوم بمهمة العبادة التي هي في كيفيتها " إعمار الأرض"، والسؤال هنا عن المقصود من الإعمار؟ وبشكل أوضح.. حين نتحدث عن الحضارة والنهضة والدولة؟ من المقصود من كل هذا؟ من المقصود من الاقتصاد والتعليم؟ هل هي الأبنية والأبراج والمال " الأرقام في أرصدة البنوك" وهذا ما نسميه "الأشياء" أو "الكون" أو " المادة"؟ أم هو الإنسان؟ إنه " الإنسان" بلا شك، الارتقاء بالإنسان، وتحرير الإنسان، والعودة بالإنسان إلى فطرته، والفطرة هنا هي الاستعداد للخير، ولو رد الإنسان إلى فطرته، أي إلى إنسانيته بعبارة أخرى، لعرف طريقه إلى ربه. ومع ذلك، أي مع كون الإنسان هو المقصود من الاستخلاف في عالم الشهادة، إلا أنه مسؤول عن الأرض والكون، بمعنى أنه لا يحق له تدمير الكون أو الإضرار به لأجل سعادته. تأمل حديث الفسيلة " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها" ، فمع ملاحظة الحث الواضح على أولوية الإعمار وتقديمه على غيره من العبادات فقد أمر بغرسها ولم يأمر بالسجود مثلا، لكن الأهم من ذلك هو أنه أمر بغرس الفسيلة مع أن الساعة قائمة، أي لا أثر للفسيلة على الارتقاء بالأرض، أو على الحضارة مثلا، فلماذا جاء الأمر؟ الأمر هنا لإثبات أن المقصود من " الاستخلاف " هو الإنسان الفاعل، أي أن يموت الإنسان وهو فاعل مستخلف مستعمِر أحب من أن يموت وهو متشائم يائس، وبمعنى آخر إن الاستخلاف غايته الإنسان لأنه هو المقصود بالفعل ولأنه هو الفاعل. ماذا عن التوهم بتعارض ذلك مع " التوحيد"؟ هذا توهم غريب وسببه التفكير الجزئي في طرح التصور الإسلامي، وليس هنا مجال التفصيل في ذلك. من يتوجه إلى الله تعالى بالعبادة، له تصور ل " الله" تعالى، وله شعائر يقوم بها " الصلاة والصيام.. الخ" ، وله كتاب يرجع إليه ويستقي منه منظومته القيمية، لكل شيء مما سبق أي التصور ل " الإله" و طبيعة "الشعائر" التي يقوم بها المتدين، وللمنظومة القيمية التي يفهمها من "نصه" المقدس، لكل ذلك أثر على سلوكه وفعله، وبالتالي أثر على سلوك المجتمع، وبالتالي أثر على شكل الحضارة، بمعنى أن العلاقة بين "العبادات القلبية "و" العبادات الشعائرية " و"العبادات المدنية "، علاقة متداخلة ووشيجة لا يمكن الفصل بينها. بمعنى آخر وأوضح، إن من يتخيل أن إعمار الأرض شيء يختلف عن التوحيد وعن الشعائر، وأن ثمة دوائر منفصلة لابد أن نحدد لمن الأولوية بينها، إنما يقوم بفعل خطير، وهي العلمانية الشاملة التي تفصل الدين عن الحياة، فالدين هو يشمل كل هذا، ولا يشمل فحسب وإنما يجعل كل ذلك متداخلا مترابطا، ممتد الأثر كالشيء الواحد. لذلك قلت في أكثر من مرة إن من يعتقد بالفصل بين هذه العبادات إنما يعيش أزمة معرفية، ولذلك هو يستشكل الأمر، ويتوهم التعارض. إن العقيدة المسيحية التي تقول بالتثليث، تقوم على "وحدة الوجود"، فتصورها للإله، وطبيعة شعائرها، وطبيعة النصوص الفلسفية التي تعتمد عليها لها أثرها المباشر على شكل حضارتها، ولا يمكن أن نتخيل الفصل بين هذا وهذا. بل ثمة ما هو أعظم من ذلك، وهو السؤال عن فائدة وأثر التوحيد، على من يعود؟ وعلى من يعود ضرر الإلحاد أو الشرك أو التصور الخاطئ ل "الإله "، أو الممارسة الخاطئة ل " الشعائر " ؟ هل لذلك علاقة بعالم الغيب؟ بالتأكيد لا، فالله تعالى لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، ولا يزيده ولا ينقصه ذلك شيئا، إنما يعود نفع ذلك وضرره على الإنسان، وعلى سلوكه، وعلى شكل حضارته، وهذا ما يجعلنا نصل في النهاية إلى أن نقول: إن الإنسان هو مركز عالم الشهادة، وهذا هو معنى مركزية الإنسان، وإن الغاية من إرسال الرسل وإنزال الشرائع هي إصلاح الإنسان، وهذا هو طبيعة الابتلاء والامتحان الذي أراده الله لنا، وهذه هي كيفية العبادة. * أستاذ التفسير بجامعة الملك فهد