يتمثَّل التاريخ أمام الأجيال المتعاقبة عبر الزمن كجدار ممتد، كلما مرّ به جيل كَتب عليه الوقائع والأحداث المعاصرة له. بعضٌ من تلك الوقائع والأحداث كُتِب وفق ما تقبل به السُّلطة الرسمية القائمة في حينه بحيث تبدو صورتها بيضاء لا تشوبها شائبة فكان بعيدًا عن الموضوعية والحيادية، وبعضٌ منها كُتِب بعيدًا عن سلطة المؤسسة الرسمية القائمة فكان أقرب إلى الموضوعية والحيادية. وبحسبة بسيطة، فإن البقعة (الواحدة) من الأرض تتعاقب عليها عبر العصور والأزمنة دول وحكومات، ولذا نجد الدولة التالية تجلد الدولة السابقة وتشنِّع بسياستها وتصادر إرثها الثقافي والحضاري وتكيل لها التُّهم وتتبَّع مثالبها، ثم تُضفي على نفسها حلل الكرامة وصفات الكمال بحيث لا تستطيع حصر مناقبها لو جربتَ! نفهم من هذا أن (المُؤرِّخ) في ظل سلطة المؤسسة الرسمية مُسيَّر لا اختيار له، مُلزَم بكتابة ما يوافق هوى السلطة الرسمية، غير مسموح له بكتابة الوقائع والأحداث كما هي. وفوق هذا وذاك مطلوب منه تلميع ذات السلطة التي يعيش في ظلها، وإبراز الوجه الحسن لها، دون التطرق لمثالبها مهما كان حجمها. كيف يمكن أن يكون وجه التاريخ لو أُعطي المُؤرِّخون الحريةَ كاملة ليكتبوه بموضوعية تامة؟ وكيف ستكون الحالة السياسية والدينية اليوم لو لم تمارس سلطة المؤسسة الرسمية عبر العصور سياسة تكميم الأفواه ومنطق الإملاء القسري بحق المؤرِّخين؟ ثم ما ذَنْب الشعوب التالية وهي تقرأ تاريخًا ينضح بالطهر لتلك المؤسسات السلطوية البائدة التي كُتِب في ظلها، مشحونًا بأقبح الصفات للخصوم؟ في (الماضي البعيد)لم يكن هناك إعلام رسمي موجَّه يخدم مصالح المؤسسة السلطوية ويرسِّخ سياساتها ويؤثر في الاتجاهات ويغيب الحقائق، خاصة وهو لا يملك من الإمكانات والتقنيات ما يعزز توجُّهَه، لذا كان المؤرخون بمنأى عن ذلك التأثير – بنسبة عالية - وكانوا (أقرب) إلى الإنصاف، اللهم إلا مَن عاش منهم في بلاط المؤسسة السلطوية ولازمها فلا مناص أمامه من كتابه التاريخ مفصلاً على هواها. واليوم يأتي الإعلام -الرسمي وغير الرسمي- ليقوم بتغذية التاريخ ليُكتَب وفق ما أملاه الإعلام بمغالطاته كلها. ولنا أن نتساءل لو أن الإعلام –بإمكاناته الحالية اليوم- وُجد في عهد نزول الرسالات السماوية، ماذا كان سيَكتُب؟ وكيف سيَقبل –عقلاً- بنزول جبريل بالوحي؟ وكيف سيصدق بمعجزات الأنبياء؟ وبماذا سيصف أتباع الرسالات؟ لذا فمن رحمة الله بعباده أن مهّد لرسالاته بأن ضيَّق على خصومها فرص التواصل، وسبل التلاقي الفكري مما جعل الرسالات تجد المناخ الملائم وتنتشر بين الناس دون أن يكون هناك مرجفون كُثُر –كما هو اليوم- يشوّهون الحقائق ويزرعون الشك في نفوس الأتباع ويؤثرون على المؤرخين. وإن كان هناك من مغالطات وأكاذيب حول الرسالات فهي نادرة والنادر لا حكم له. وهنا يفرّق الدكتور (صلاح الدين يونس) في كتابه (النثر.. لا الشِّعر) بين (التاريخ والتاريخية)، فالتاريخ برأيه يمثل سردًا للأحداث «تقوم به مركزية السلطة أو الثقافة أو المؤسسة، وهو مجموعة من الأحداث التي تترتب في إثر بعضها ترتُّبًا مجيرًا لصالح صاحب المؤسسة من دون أن ينتظمها نظام أو منهجية علمية، وعلى الأغلب فالفاعل فيها هو المنتصر تاريخيًّا» أما التاريخية فيراها ممثلة في «ممارسة التحليل التاريخي لأي حدث تاريخي ضمن نسق معرفي أنجزه ذلك العصر الذي ينتمي إليه الحدث... تجعل منه قابلاً لقراءات عديدة، فتحيله من ممتلكات المؤسسة السُّلطوية إلى ممتلك ثقافي يقبل النقد والتعديل والتجريح وإعادة النظر». وعلى هذا فالمؤرخ يُفتّرض فيه كتابة التاريخ وفق قراءة واعية وتدقيق وتمحيص، وألاّ يكتفي بالسرد والتبويب فقط وإلا عُدَّ مدوِّنًا. ومع هذا وفي ظل بعض المؤسسات السلطوية يصبح المؤرخ بدرجة المدوّن، وأحيانًا بدرجة المزوِّر؛ وذلك حينما يعمد إلى قلب الحقائق. ويبقى التساؤل عن (الأخفياء) الذين يكتبون التاريخ بعيدًا عن أعين الناس، إن هم أظهروا جانبًا من الحقائق المغيَّبة بفعل سلطة المؤسسة الرسمية، هل التزموا الموضوعية وذكروا محاسن المؤسسة الرسمية إن كانوا بصدق حريصين على الموضوعية والعدالة في كتابتهم التاريخ؟ أم أنهم أغمضوا عين الرضا وفتحوا عين السخط بكل اتساعها؛ ليظهروا المثالب ويغفلوا المناقب في حركة قصدية مضادة لما يدندن به الإعلام الرسمي للمؤسسة ويتلقفه مؤرخوها؟ .. أخيرًا، لا أحلم بوجود ميثاق بين العالم الإسلامي والعالم غير الإسلامي يتم الاتفاق عليه لكتابة التاريخ بموضوعية تامة، لكنني أتساءل: هل يمكن إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي بحيث لا تُصادِر المؤسسة الرسمية تاريخ سابقتها، أو تعمد إلى تشويهه، ومن ثّم تسمح للمؤرِّخين بتسجيل الواقع كما هو بكل أمانة دون وصاية أو إملاءات؟ أم أنها تبقى أحلامًا معلقة لا تجد لها أرضًا تحطُّ عليها؟. [email protected]