وقف يحيي الجمهور الغفير القابع تحت المنصّة في وجوم وقد خيّم عليهم سكون تام حتّى كأنّه يسمع صوت ارتطام يده بالهواء. ذبلت الابتسامة بين شفتيه، وبدا كطفل نهره أستاذه، فاسودّت الدنيا في عينيه، التفت إلى مرافقيه لعلّه يجد في أعينهم تفسيرًا لما يحدث. لم يجد سوى العرق يتصبب منهم، اتجه ثانيةً إلى الجمهور، حاول أن يتصنّع الابتسامة، مدّ يده إلى جيبه المنتفخ والتقط منه ورقةً وضعها بين يديه. كان طوال خطابه لا يفقه ما يقول، يتسلل بنظراته إلى عيون الناس فلا يجد فيها غير الصمت ومعاني لا يدركها. أو لعله الآن يسمع دويًا في دواخلهم يقول: الشعب يريد ... صاح رجل من مقدمة الناس يطلب الكلام، ورغم أنّ صوت الرجل كان مرعبًا في ذلك الصمت القاتل إلاّ أنّه يُعتبر أولى البشائر للتفاهم معهم. ابتسم وأشار للرجل بالدنو. اخترق الصمت من جديد رجل آخر - دعه يفسّر لنا لماذا جاء ولماذا كان يجيء. ورغم أنّ الإجابة على هذا السؤال سهلة إلاّ إنّه لم يستطع الرّد، التفت إلى مرافقيه ثانيةً، فلم ير سوى ابتسامات ميّتة على الشفاه. واجه الجمهور متصنّعًا الحماس: - أوصل بكم الأمر إلى هذا الحال؟ كانت الوجوه الصفراء الشاحبة أمامه والأجساد نصف العارية، تكفيه للإجابة ... ظنّ أنّه سيمتص غضب الناس قليلاً فواصل: - أعدكم بأنّي س... - قاطعه أحدهم: لسنا بحاجة إلى سيناتك فقد سئمناها حتّى وددنا أنّها لو نُقِّطت ولم تُهمل وقال آخر: - أما تدري بأنّ الجراد قد أتلف المحصول هذه السنة - لقد أرسلت لكم المبيد . - أتلف مبيدك الزرع!! - ماذا تعنون...؟ قاطعه آخر في تهكّم: - دعك من هذا، وقل لنا، هل صحيح إنّك تحتفظ بين تحفك الخاصة بمطرقة ومنجل؟ - ماذا تقصد؟ - أمتأكّد بأنّ الصدأ لم يأتِ عليهما؟ ضجّ الجمهور في قهقهة عالية، عبس وجهه وأدرك بأنّ الأمر لو طال على هذه الحال سوف يزعجه، فأراد حسم الموقف. صاح: - كفى بلبلة وهراء وقولوا ما هي بغيتكم؟ أجابه صوت أجش: - إن كنت جادًّا دعنا نفصل في الأمر؟ - حسنًا وما هوّ فصلكم؟ صمت الناس، وتقدّم رجل منهم وارتقى سلّم المنصة وسلّمه ورقةً. فتح الورقة وقرأ فيها (قد قبلنا استقالتك). التفت إلى الناس فوجدهم بدأوا الانصرافات في خطوط غير متناسقة. [email protected]