بين زخم أساليب التعبير الفني التي طرحتها اتجاهات الحداثة التشكيلية وما بعدها، والتي استقى منها التشكيليون المعاصرون إبداعاتهم الجمالية، نرى أنفسنا أمام تنوع فريد، وتناغم جمالي يجعل المتلقي يتشبع بالقيم الجمالية، بالتأمل الدقيق والرؤية التي يتم من خلالها الاكتشاف.. اكتشاف القيمة.. اكتشاف الأسلوب.. ومن ثم الاتجاه. ومعرض تنمية (1) مساهمة قيمة في تنمية الوعي الفني والجمالي وإحياء نبض الحركة التشكيلية بمنطقة عسير من خلال مجموعة القائمين على إنجاز هذا المعرض، وعلى رأسهم التشكيلي الأكاديمي د.علي مرزوق، الذي يسعى دائمًا لتفعيل الحركة التشكيلية وها هو يطرح طرحًا جديدًا أطلق عليه تنمية (1) آملًا أن يكون معرضًا سنويًا ودائم الاستمرار. لقد قسمت لجنة التحكيم الأعمال الفائزة إلى أربعة مستويات: المستوى الأول: ويشمل ثلاث جوائز. المستوى الثاني: ويشمل ثلاث جوائز. المستوى الثالث: ويشمل ثلاث جوائز. المستوى التشجيعي: ويشمل ثلاث جوائز. أعمال المستوى الأول: حينما نتأمل أعمال المستوى الأول، فإننا نجدها تتنوع من حيث الأسلوب والتقنية فهناك من التكوينات ما هو مستلهم من جماليات التشكيل الحروفي، حيث تتداخل الأبجدية العربية في تناسق جمالي مكونة بناءً جماليًا هرمي الشكل، وقد استخدم الفنان مجموعة لونية متناسقة قوامها في البارد، حيث يسودها الأزرق المائل إلى الاخضرار، وتدريجات من التركواز والأزرق السيان، في تركيبة إبداعية تتحقق من خلالها جماليات التكوين والتلوين والتأكيد والتلاشي، مما يثري خيال المتلقي ويبعث داخله حسًا جماليًا يساهم في تنمية الذوق العام. وهناك من الأعمال كذلك ما يجمع بين التجريب والمفاهيمية بحس رمزي تجريدي، حيث قدم التشكيلي خالد حنيف تجربة تشكيلية جمالية مغايرة لما قدمه التشكيلي الحروفي إسماعيل، تجربة زاوج من خلالها بين فواتح وقواتم مجموعة لونية متناسقة تتحقق من خلالها الهارمونية اللونية، والعمل حافل بالرمز مما يستدعي التأمل الدقيق لقراءة فكرة الفنان واستشرافها من خلال عناصر العمل، ولكي تتحقق الهارمونية اللونية نراه استخدم مجموعات الأصفر المُطعم بالأوكر والبني، دامجًا معهم الأسود ليحقق بوعي وأكاديمية تشكيلية الهارمونية اللونية، ومن خلال استخدام التشكيلات القائمة على الخط والمساحة حقق الفنان مسارًا إيهاميًا لحركة عين المتلقي داخل العمل الفني بحيث تتركز الرؤية في مختلف جزئيات العمل الفني. كما تضم أعمال المستوى الأول عملًا شبه تشخيصي مستلهم من العنصر الآدمي للتشكيلية صالحة فايز، حيث قدمت عملًا جماليًا يتضمن سمات البراءة والتصفيف ووحدة خط الأرض، وهي سمات مستلهمة من فنون الأطفال، نجحت التشكيلية في صياغتها، مما أكسب العمل الفني تميزًا جماليًا، ولقد جاءت التوظيفات اللونية على عكس العملين السابقين، حيث تباينت الألوان بين الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر والأبيض، ولكي يتحقق الترابط الجمالي نراها وقد قامت بتطعيم الألوان بعضها ببعض، وساد استخدام الأصفر حيث تخلل العناصر الخمس التي تكون الشكل بالعمل الفني، كما حققت الفنانة تباينًا جماليًا بين مفردات الشكل ومساحة الخلفية، حيث جاءت سيادة الشكل في القاتم فظهرت كثافة الألوان، على عكس الخلفية التي اتسمت بالشفافية والخفة وكانت السيادة فيها لفواتح الألوان التي يسودها الأخضر المائل إلى الاصفرار. أما عن أعمال المستوى الثاني: فالمشاهد لأعمال ذلك المستوى يلاحظ أنها تتسم بالقيم الجمالية، بل قد تتعادل مع مجموعة المستوى الأول، إلا أن هناك بعض الملاحظات التقنية الطفيفة التي كان لزامًا على الفنانين مراعاتها، فعند تأمل العمل التشكيلي للفنان طارق علي والذي يقدم من خلاله رؤية تعبيرية رمزية يمكن أن نطلق عليها الواقعية السحرية، حيث الدراسة الأكاديمية التقنية لوجه الخيل، وفي خلفية عنصر الخيل نرى تشكيلًا حروفيًا جماليًا تنبت من زواياه أعمدة أربع، ومن بينها تشكيلات ذات إيحاء بالحرم الشريف، كما يظهر بخلفية العمل هلال ونجوم خافت ضوؤها، وبرغم الدراسة المتعمقة والإضافات الجمالية لمختلف العناصر التي يتألف منها التكوين فإننا نرى الفنان وقد أتقن وجه الخيل وأضاف بديلًا للعين تعبيرًا جماليًا للحرم المكي الشريف، إلا أن القطع الذي دخل به عنصر الخيل العمل جاء شديدًا وقد أزاد تلك الشدة توظيف اللون الأبيض الشاهق مما زاد من الإحساس بالقطع الحاد، وكان من المفترض أن يستخدم الفنان تدرجات للرمادي كلما اتجه خارجًا من العمل حتى لا يعطي الفرصة للعين أن تتحرك خارج العمل الفني، وهذه هي الملاحظة التي إذا روعيت لكان العمل من أنجح الأعمال تعبيرًا وتقنيةً وتلوينًا. أما عن الأعمال التي قدمها التشكيلي محمد شراحيلي والتي تتميز باحتوائها مجموعة من المفردات تتحدد في الخط العربي الحر والذي يتخذ حركة لولبية، وتشكيلات هندسية شبه معمارية، ووحدات من الموروث الشعبي التقليدي كالجنابي وغيرها، وبرغم إتقان توزيع العناصر وجماليات الملمس المستخدم وهارمونية اللون الذي تسوده البنيات والأصفر في تناغم جمالي، إلا أن هناك بعض الملاحظات منها أن هذا الأسلوب جديد على الفنان، حيث برع في رسم الخيول بحركات متنوعة ومتناغمة وعالية التعبير وغاية في الرمز والصياغة على مدار عدة سنوات متعاقبة، ونظرًا لحداثة الفكرة والأسلوب المستخدمين وحرص الفنان على تحقيق الجديد فهناك بعض الملاحظات، من حيث توزيع العناصر بمساحات العمل وبخاصة التشكيلات الحروفية الحرة، ولكن يحسب للفنان ما حققه من قيم لونية تتسم بالهارمونية، كذلك القيم الملمسية التي أضافت تناغمًا وثراءً لسطح العمل الفني. ويقدم الفنان سعيد سعيد، منظرًا طبيعيًا برؤية واقعية بعيدة عن الانطباعية وكأنها صورة فوتوغرافية تصور قرية تراثية تتضمن التشكيل المعماري وفتحات الأبواب والنوافذ، والتناغم اللوني بين البني والأبيض والأزرق والأخضر محققًا تعادلية في السيادة بين البني (المتمثل في التشكيل المعماري) والأخضر (المتمثل في النباتات) والأزرق (المتمثل في السماء وتشكيلات السحب)، وبالرغم من تلك المهارة العالية التي تميز بها أسلوب الفنان من حيث التقنية والرسم والتلوين وصياغة التكوين الجيد إلا أن العمل يخلو من بصمة شخصية للفنان، حيث يبدو بجمالياته وتقنياته وكأنه صورة فوتوغرافية بعدسة الكاميرا. وعن أعمال المستوى الثالث: يقدم خالد فهد رؤية انطباعية للواقع تتسم بالتشبع اللوني، حيث استخدم خامة الألوان الزيتية، وجعل السيادة فيها لمجموعة الأخضر التي شكلت النبات والأرض والسماء وما بينهما من بيوت وصخور ومجرى مائي، وبرغم أن الفنان حرك العين على كتلة تبدو صخرية تتجه إلى البيت الشعبي ثم إلى مجموعة النباتات فالسحب أعلى العمل، ثم إلى المياه أسفل العمل، والملاحظ أن بداية سقوط العين على الشكل شبه الصخري كان من الأفضل أن يكون شكلًا ذا معنى أو معلمًا تسهل قراءته لدى المشاهد، خاصة أن العمل يمثل رؤية انطباعية عن الواقع وباقي مفرداته معهودة للمتلقي، كما أن غالبية دراسة العمل وتفتيت المسطح متقارب من حيث الدراسة والتحليل مما كان يتطلب بعض الاختلاف في أرضية العمل. أما الفنان محمد معيض فيقدم رؤية مغايرة تتسم بالتناغم وجمالية التحليل، حيث اتخذ أسلوب التحليل المنتهي بالتكعيب على غرار بيكاسو وجورج براك، وبرغم تحقيق التناغم والهارمونية في التحليل والألوان إلا أن العمل الفني يخلو من عنصر السيادة، فالأشكال متعادلة من حيث التحليل وأسلوب التلوين والشدة وتقريبًا المساحات، مما كان يتطلب وجود عنصر رئيس يمثل مصدر الرؤية ويرسم لعين المتلقي مسارًا حركيًا لمشاهدة العمل. أما العمل الفني للفنان ملفي فبرغم ما حققه من تناسق لوني في الخلفية وآخر في الشكل إلا أن هناك بعض الانفصال بين عناصر الشكل بعضها البعض ثم بين الشكل وخلفيته، وهذا بدوره جعل الشكل يبدو كأنه مجموعة من التشكيلات المتناثرة على أرضية متناغمة. أما عن مجموعة الأعمال التشجيعية فقد اختيرت إما لجودة فكرتها أو تقنية تلوينها أو حسن توزيع عناصرها ولكنها أعمال تتطلب المزيد من الدراسة ولكنها تنبئ بمولد فنان. وأخيرًا أتمنى للجميع التوفيق والسداد. * الأستاذ المشارك بجامعة الملك خالد