(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، تضجّ المنابر بفهم مقلوب لمعنى الآية.. اسمعْه إن شئتَ حين تشاء من كثير ممّن يقول: “أمّا بعد”، يقول: معنى الآية: إنّ الله لا يغير ما بقومٍ من حال خشن إلى حالٍ حَسَنٍ إلاّ إذا غيّروا ما بأنفسهم من فسادٍ إلى صلاح، ومن معصية إلى طاعة.. ولئن كان هذا المعنى صحيحًا في ذاته من بعض الوجوه لنصوص أخرى، إلاّ أن الاستدلال عليه بالآية استدلالٌ في غير موضعه؛ لأنّ التركيب لا يساعده، ولأنّ السياق لا يقوّيه، ولأن قوله سبحانه في الآية الأخرى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الأنفال: 53]، يدفعه، ولأنّ قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16] لا يؤيّده. بل معنى الآية بإجماع المحققين: إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ من نعمة أنعمها عليهم، كنعمة الأمان، وقوّة السلطان، والرّخاء والدّعة، والغنى والسّعة؛ حتى يغيّروا الخير الذي في أنفسهم إلى شرّ وظلم وفساد، فإذا وقع منهم ذلك غيّر الله ما بهم، فأضعف قوّتهم، وسلبهم ما مكنّهم، وصيّر نعمته إلى زوال، وصلاح بالهم إلى وَبال، وعادت كثرتهم إلى قلّة، وعزتهم إلى ذِلّة، وسعادتهم إلى شقاء، وما لهم من دونه من والٍ. هذا هو معنى الآية.. وأمّا مَن أراد المعنى الآخر؛ فليستدلّ عليه بنصوص أخرى في الكتاب والسّنة والآثار، ولكنه قد يحصل التغيير لأشباه الأنعام بسوابغ الإنعام، كما جاء في سورة الأنعام، في قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام: 44]. ومن الفروق بين المعنيين والحالين: أنّ التغيير من حسن إلى سوء لا يكون إلاّ فيمن كفر بأنعم الله، وأمّا التغيير إلى الغنى والخير فيكون للمؤمنين نعمةً ورحمةً، وللكافرين استدراجًا يعقبه نقمة.