تعد المواقع الأثرية والتاريخية، والمتاحف، هي المرايا العاكسة لحضارات إنسان الجزيرة العربية بجميع المناطق بكل أبعادها ومظاهرها، وهي المجال الخصب للجيل الجديد والشباب لاستعراض هذا الماضي المجيد، للاطلاع عليه، وبالتالي هي المنبع في ترسيخ مفهوم الإرث الثقافي والتاريخي في نفوسهم وعقولهم، ومنها أيضًا يتعرّف الجيل الحاضر على ما عاناه آباؤهم. ولكن تشتكي الكثير من المواقع الأثرية والتراثية، في جميع أنحاء المملكة، من عزوف الشباب السعودي، وقلة ارتياده وزيارته لتلك المواقع، بعكس الوفود التي تأتي لزيارة تلك المواقع. وأرجع عدد من المهتمين بالآثار السبب في ذلك إلى عدة أسباب، وفي مقدمتها قلة الوعي الثقافي. مسألتان وخمسة أسباب الدكتور مسفر الخثعمي (أستاذ التاريخ بجامعة الملك خالد) يقول: أنا أقتصر الموضوع على مسألتين، الأولى: فيما يتعلق بحب الأجانب للتراث بشكل عام وإقبالهم عليه فهذا الموضوع له صلة مباشرة بتربية هؤلاء فهم يدرسون في مناهجهم وينشؤون في بيئاتهم على أهمية هذا الموروث وأهمية التعرّف عليه والمحافظة عليه وقد ساعدهم في ذلك وجود العديد من المتاحف الوطنية والمسارح الثقافية التي تربط الناشئة في تلك البلدان بتراث بلدانهم على اعتبار أنها الصلة الحية التي تربطهم بماضيهم وتنير لهم الطريق فيما يتعلق بمستقبلهم.. وهم لم يكتفوا بذلك بل نراهم يُقبلون على اقتناء تراث الشعوب الأخرى ويسعون للتعرّف عليها إيمانًا منهم بأن هذا التراث هو أداة من الأدوات التي يستطيعون من خلالها التعرّف على الآخر لإدراكهم أن التراث هو التعبير المادي المستمر عن الشخصية للشعوب على اعتبار أنه -أي التراث- إنما هو التعبير الحي لأهله أو هو الشاهد الصادق على حضارة أي شعب أو أمة من الأمم.. فهو يكشف لنا عن مدى التقدم في إنتاجهم ومدى الثراء أو الفقر في إمكانياتهم ومدى التأثر أو مدى التأثير بين حضاراتهم وحضارات جيرانهم.. ثم انه يلقي الضوء على هيئاتهم وأزيائهم ويعبّر عن كياناتهم وذواتهم وتطلعاتهم وطبيعة أذواقهم ونفسياتهم وهو في الوقت ذاته قيمة حضارية تربط أهله بالإنسانية جمعاء، وأما المسألة الثانية فتتعلق بعدم مبالاة المواطنين في هذا البلد بتراث بلادهم وعدم المحافظة عليه والأسباب في هذا الموضوع كثيرة أيضًا ولكن سأشير وفي نقاط إلى أبرز هذه الأسباب وهي: عدم ربط التراث بالمناهج الدراسية بطريقة مثلى.. ونشر الوعي بأهمية التراث سواء من خلال المدرسة أو الأسرة فالمسألة هنا مسألة تربية.. وعدم وجود متاحف ومسارح توثّق لتراثنا وتربط الناشئة بالتراث وبقيمته الحضارية وإن وُجدت بعض المتاحف في بعض المدن فهي لم تُفعّل بالشكل المطلوب كما في بقية دول العالم.. والسبب الثالث ضعف الانتماء لهذا التراث على مستوى الأفراد والأسر ولهذا يُخشى من أن تعيش أجيالنا غربة حضارية تقطع الصلة بينها وبين ماضيها ولا تربطها بحاضرها ومستقبلها.. والسبب الأخير عدم إدراك أهمية الموروث على المستوى الشعبي. استكمال البنية الأساسية حسين الخليفة (المدير التنفيذي لجهاز السياحة بمنطقة الجوف) يقول: لا غرابة بأن السياح الأجانب الذين يقومون بزيارة المواقع التراثية -تتم زيارتهم وفق برنامج محدد مسبقًا ويشمل المواقع المشار إليها- من خلال برنامج رحلات خارجي وداخلي ويرافقهم مرشد سياحي من بلدهم ومرشد سياحي عام ومرشد في كل منطقة، فهذه العوامل مجتمعة هي ما نحتاج إليه لزيادة الزيارات والاهتمام بالمواقع السياحية، وقد قامت هيئة السياحة والآثار بعدد من البرامج (السياحة والمجتمع) بهدف رفع الوعي السياحي فمن بين هذه البرامج: برنامج “السياحة تثري- برنامج “ابتسم”- برنامج “السياحة المدرسية”- برنامج “توعية سائقي سيارات الأجرة”- برنامج “ورش عمل للقطاعات العسكرية”، وكذلك شجعت الهيئة العامة للسياحة والآثار على الترخيص لمنظمي الرحلات والمرشدين السياحيين للعمل في هذا المجال، ولذلك تقوم العديد من الأسر بالسفر إلى الوجهات الداخلية بدون تخطيط مسبق للرحلة، فالتخطيط المسبق للوجهة ومعرفة معالمها وأماكن الزيارة، وذلك من خلال التواصل مع منظم رحلات، يتيح الفرصة لزيارة جميع المعالم سواء الأثرية أو السياحية منها. ويضيف الخليفة: مختصر الحديث عما سبق هو أن الوضع ليس كما تراه ومن خلال التجربة الميدانية وعملي السابق فإن هذه المواقع الأثرية وهنا أتحدث عن دومة الجندل وسكاكا يزورها العديد من المواطنين وبخاصة زوار المنطقة ويرافقهم في الغالب أبناء المنطقة، كما أننا نحتاج إلى استكمال البنية الأساسية لإنجاح الزيارات وبخاصة الوفود ورفع جاهزية منظمي الرحلات وقطاع الإيواء، وكذلك تسويق المنطقة في المدن الرئيسية من خلال منظمي الرحلات، والاستفادة من مواسم المهرجانات لزيارة المناطق، والترخيص لمرشدين سياحيين في المواقع وتحديد مقابل لكل جولة أو موقع، ولا شك أن دور وسائل الإعلام هو دور بارز ومهم وبخاصة في التعريف بالمواقع سواء المرئي أو المقروء والمسموع ومع نشر كل معلومة عن أي معلم أو موقع يتم الإيضاح عن كيفية الوصول للموقع. تهيء فرضًا وظيفية الدكتور ضيف الله الطلحي (أستاذ الآثار بجامعة حائل) يقول: ظاهرة تعرّف الأجانب على المواقع الآثرية والتراثية في البلد الذي يسافرون إليه إما للعمل أو السياحة هي ظاهرة صحية في مجملها فهي تعرّف الأجنبي على ثقافة البلد الذي يعيش فيه وتراثه مما يُسهل له التأقلم في العيش مع هذا المجتمع، وكذلك ممكن أن تكن ذات مردود مادي وظيفي في الدول التي تفرض رسومًا زيارة على المواقع الأثرية والتراثية وذلك يهيئ العديد من الفرص الوظيفية في مجال السياحة مثل المرشدين ومقدمي الخدمات. ويرى الطلحي أن سبب عزوف المواطن عن زيارة المواقع الأثرية فقد يكون ذلك لإحساسه أنها بالقرب منه وأنه في أي وقت يريد زيارتها فمن الممكن أن يتوجه لها فورًا، ولعل ضعف التوعيه الإعلامية وعدم تواجد الخدمات من وسائل نقل وأماكن إقامة مناسبة وخدمات إرشاد، يكون أيضًا من أسباب العزوف. المحافظة على بقايا التراث ويقول الدكتور عبدالعزيز الغزي (أستاذ الآثار بجامعة الملك سعود): بخصوص اهتمام الأجانب بتراث المملكة فمرده إلى الوعي الثقافي بشكل عام، إذ إن الشخص المثقف يدرك أن حفظ التاريخ يتم من خلال حفظ مصادره، فتراث اليوم سوف يصبح في المستقبل هو الأثر الذي بقي عن ذلك الإنسان. فعلى سبيل المثال، هدم المباني التراثية يؤدي إلى طمس معالم ومصادر تاريخية سوف يصبح وجودها في غاية الأهمية كلما تقدم الزمن.. وأما ما أنصح به فهو أن تحافظ الجهات المسؤولة على بقايا التراث، سواء على شكل مواد أثرية منقولة أو ثابتة، مثل المباني على اختلاف أنواعها من عامة وخاصة، لأنه بإزالتها فنحن نزيل تاريخ بلادنا، وما أزيل ذهب دون رجعة. العبء على جهاز السياحة الدكتورة مها اليزيدي (أستاذة التاريخ بجامعة الجوف) تقول: التراث العمراني ثروة قومية ليست فقط على المستوى المحلي بل على المستوى العالمي وهو أحد الموارد المستدامة للسياحة البيئية والتي تعد أهم أنواع السياحة التي تنمو بمعدل مرتفع على مستوى العالم في السنوات الأخيرة، كما يمثّل حلقة قوية من سلسلة متينة متصلة تبدأ من ماضي هذا النتاج وتمتد مع حاضره إلى مستقبله، والحديث عن التراث وفي بلدنا المملكة هو حديث شيّق جدًا ومتشعّب ويشمل محاور كثيرة منها حرص الأجانب على زيارة التراث السعودي أو التراث بشكل عام، وفي المقابل فكثير من المواطنين غير مبالين.. وهنا السؤال لماذا؟ وللإجابة على هذا التساؤل فنوضح أولًا أن هذا التراث والمواقع الأثرية تقع في شبه الجزيرة العربية، وشبه الجزيرة العربية كما نعرف هي موطن الأديان السماوية ومهد الرسالات وبها قامت حضارات سابقة وأقوام بائدة، فمن الطبيعي أن يكون هناك جذب لهذه المنطقة، وبخاصة أن الثقافة والوعي في أوروبا لا تُقارن بمجتمعاتنا، وحب الاستطلاع والاستكشاف من العوامل التى تدفعهم، وبخاصة عن الإسلام وموطن الإسلام، إضافة إلى نقطة أخرى مهمة هي تبادل العلاقات الطيّبة والوطيدة والتى تُعتبر عاملًا مهمًا من عوامل استقطاب السياح الأجانب، ولا ننسى كذلك نعمة الأمن الذي ينعم به بلدنا ولله الحمد. وتضيف الدكتورة اليزيدي: إذا نظرنا في المقابل إلى عدم مبالاة المواطنين بهذا التراث، فنجد الأسباب كثيرة، منها ما يقع على عاتق الفرد نفسه، وأخرى على عاتق الأجهزة المختصة بالسياحة، فللأسف مجتمعنا يعاني قلة الثقافة والوعي تجاه هذا التراث، وربما تجاه أشياء أخرى، وربما لمعرفتهم بأن هذا تراثهم وهم يعرفونه ولذلك لا داعي للقيام بالرحلات والزيارة لتلك المواقع الأثرية، والتي في المقابل تفتقد للكثير والكثير من الخدمات التي يحتاجها المسافر والسائح، وأبسطها أماكن الإقامة، فحينما يسلك السائح المواطن مسافة طويلة لزيارة موقع أثري فإنه لا يعود إليه مرة أخرى، ومن جهة أخرى يقع العبء الأكبر على جهاز السياحة والذي بدوره لا بد أن يهتم بهذه المواقع الأثرية وتكثيف الإعلام حول ذلك بإصدار النشرات والمجلات والتي تشجع السياحة، كما أن توفير المراكز والخدمات والفنادق يعنى توفير متطلبات الجذب السياحي في البلدة، وفي رأيي أنه يمكن تلخيص تلك الأسباب في: * العمل على نشر التوعية الشعبية وتعريف المجتمع بمفهوم التراث الثقافي والحضاري وأهمية المحافظة عليه وذلك على مختلف المستويات التعليمية والفكرية والثقافية ابتداء من المدارس الابتدائية وحتى التعليم الجامعي. * عمل رحلات مدرسية بدعم من إدارات التعليم لدعم السياحة والتعريف بالمواقع الأثرية وأهميتها. * توفير متطلبات الجذب السياحي من خلال توفير الفنادق والمطاعم وغيرها من المتطلبات السياحية. * تنفيذ برامج دعائية لتشجيع النشاط التجاري في الأماكن التي بها تراث من حيث قيام المهرجانات والمعارض والندوات التي تهتم بالتراث الشعبي والحرف التقليدية واليدوية الشعبية. * التكاتف والتعاون في مختلف الجهات والمؤسسات الحكومية والخاصة وتبادل الأفكار والاشتراك في الوعي.