إن المتأمل للواقع اليوم، وما يجري فيه،من خلاف ونزاع، في مسائل فرعية أو جزئية بين بعض طلبة العلم الشرعي، وبعض الدعاة إلى الله تعالى، من خلال كثرة الردود والمقالات، المنتشرة بين دفتي الصحف والمجلات، وبعض المواقع الإلكترونية، وتصعيد هذا الخلاف؛ ليصل إلى حد الفرقة والاختلاف، أو قد يصل أحيانًا لحد الفجور في الخصومة، والبغضاء والإجحاف، ما هو إلا بسبب ضعف الأهلية في فهم مسائل الخلاف، وعدم إدراك بعض الطرق في التعامل مع المخالف؛ من منطلق القواعد الشرعية وفهم السلف الصالح. ونجد أن علمائنا -رحمهم الله- قد درجوا منذ القدم في إرساء القواعد في التعامل مع المخالف والرد عليه؛ فهذا الإمام ابن قيم الجوزية المتوفى سنة(751ه) – رحمه الله – يقعد لنا عدة أصول وقواعد في التعامل مع المخالف؛ ويضرب لنا أروع المثل في التجرد للحق والنزوع إليه؛ فلم يمنعه إكباره للمتقدمين من العلماء، وإجلاله لهم، أن يبين خطأ الواحد منهم، إذا زلت به القدم، أو كبا به الفهم، بحكم الطبيعة البشرية، لأنه قد وطن نفسه على أن الحق وحده ودليله؛ هو الواجب إتباعه مطلقًا، بصرف النظر عن قائله. ولا أدل على ذلك من قوله عن الإمام، شيخ الإسلام، أبي إسماعيل الهروي المتوفى سنة (481ه) – رحمه الله - كما في كتابه "مدارج السالكين" (4/352) حيث قال: (شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه) ومن هنا يظهر لنا إنصاف الإمام ابن القيم للإمام الهروي، وما ينبغي أن يتحلى به طلاب العلم، والدعاة إلى الله تعالى. والرسوخ في الإنصاف: بحاجة إلى قدرٍ كبيرٍ من خلقٍ رفيعٍ، ودينٍ متينٍ: ولم تزل قلة الإنصافِ قاطعةً بين الرجال وإن كانوا ذوي رحمِ ونجد أن الإمام ابن القيم – رحمه الله - يقول عن الإنصاف في كتابه "إعلام الموقعين" (3/497): (والله تعالى يحب الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلى بها الرجل، خصوصًا من نصب نفسه حكمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله (وأمرت لأعدل بينكم) {الشورى آية15} فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف، وألا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحق مطلوبه، يسير بسيره، وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف..). والمتأمل لمنهج الإمام ابن القيم في التعامل مع المخالف من خلال مصنفاته؛ يجده يقرر عدم الرد على المخالف خطأه إذا كان مطاعًا بين قومه، وجعل ذلك من الفطنة والكياسة فقال في كتابه "الطرق الحكمية" (ص40): (ومن دقيق الفطنة أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ، وذلك خطأ ثانٍ، ولكن تلطف في إعلامه به، حيث لايشعر به غيره). ويجد كذلك تقريره – رحمه الله - في إعذار المخالف بجهله، أو اجتهاده، أو تأوله فيقول أثناء توثيقه للمنهال ابن عمرو في كتابه "تهذيب السنن" (7/140):(وروي عن شعبة قال: أتيت منزل المنهال، فسمعت صوت الطنبور فرجعت. فهذا سبب جرحه، ومعلوم أن شيئًا من هذا لا يقدح في روايته، لأن غايته أن يكون عالمًا به، مختارًا له، ولعله متأول فيه، فكيف وقد يمكن أن لا يكون ذلك بحضوره ولا إذنه ولا علمه؟!). وعليه يتضح لنا حرص الإمام ابن قيم الجوزية؛ على إنصاف المخالف والتعامل معه بهذه القواعد لتحقيق أكبر قَدرٍ من التآلف بين أبناء الأمة الإسلامية وعلمائها. •عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية