وقفات مع مواجهة الدكتور حمزة المزيني (1/2) الأستاذ الدكتور حمزة قبلان المزيني أحد أعلام الفكر والأدب في هذا الوطن، ومن الكفاءات النادرة في مجال تخصصه، وقد أثرى الساحة بمؤلفاته وكتاباته، وجل ما كتبه في تخصصه لا خارجه، وكتاباته الصحافية في الشأن العام تميزت بالجرأة، التي نفتقدها عند كثيرين ممن حملوا القلم وتصدرت كتاباتهم صفحات الصحف، ولي مع هذه المواجهة التي أجراها معه أخي الأستاذ ساري محمد الزهراني المسؤول على ملحق “الرسالة” وقفات كما يلي: الوقفة الأولى: قد لمس الأستاذ الجليل قضية الشباب، وأنهم يجب أن يكونوا قادة التغيير، وهي حقيقة أثبتتها الأحداث اليوم، والاستعانة بخبرات الكبار ضرورة أيضًا لمساندة جهود الشباب في مجال التجديد والتغيير، وإهمال أحد الطرفين معطل للتغيير المطلوب، فإتاحة الفرصة للشباب أن يبدعوا في كل مجال هو الأصل، ومجال العلم الشرعي من المجالات التي يجب أن يبرز فيها الشباب، ومن التغيير المطلوب ولا شك إحالة الكبار على التقاعد لتخلو وظائفهم للجيل الذي يأتي بعدهم، وكل المجالات خاضعة لهذا، حتى مجال الاستشارة الشرعية في دار الإفتاء وهيئة كبار العلماء، ما دام الجميع موظفين تعينهم الدولة، وتعفيهم من مناصبهم عند الحاجة. الوقفة الثانية: وأما التصرفات العفوية، والتي لا يقوم على تحريمها دليل صحيح، فإن الجدل حولها إضاعة للوقت، وإبعاد للبحث العلمي عن مجال العلم الشرعي، فإثارة موضوعات كالاختلاط، بمعنى تواجد النساء والرجال في مكان واحد، مما لا يقوم على تحريمه دليل واحد، والذي اشغل كثيرون ممن يدعون الانتساب إلى العلم، وبه شتتوا جهودهم فيما لا طائل تحته، وكذا تغطية وجه المرأة وهل هو من الحجاب الواحد أم لا، ومسائل فرعية كثيرة لا حصر لها. الوقفة الثالثة: إن محاولة إلغاء الترفيه البريء المباح، مما يقوم به من يدعون إنهم دعاة هو أمر خطير يسلم المجتمع إلى نوع من الكآبة، فجعل مناسبات الأفراح مثلًا مجالًا للوعظ، يذكر فيه المدعوون إليها بما أُعد للعصاة من عذاب في نار جهنم، ليبكوا بدل أن يفرحوا، والأصل أن يضرب بالدف في هذه المناسبة وأن تغني النساء، فرحًا بالمناسبة، وهذا سنة في الإسلام، كذا حضور المسرحيات، ومشاهدة المسلسلات في التليفزيون وسماعها عبر المذياع، وألوان كثيرة من الترفيه، ما لم تشتمل على محرم، والألعاب الرياضية للرجال والنساء، والفرح في الأعياد، فالمجتمع الذي لا ترفيه فيه هو مجتمع ولا شك كئيب، تسوده أحزان مفتعلة، تلحق بالأفراد أمراض نفسية يستعصي علاجها، وعندنا منها الكثير، بدليل أن أدعياء التطبيب عن طريق الرقى والشعوذة تنتشر في مدننا وقرانا، ونكتشف كل يوم منها ألوانًا. الوقفة الرابعة: الأستاذ الجامعي إذا اقتصر على تخصصه، ولم يشارك بالرأي في قضايا مجتمعه، حصر نفسه في محيط الجامعة، بين قاعات الدرس ومكاتب البحث، والجامعة لها وظيفة معرفية، ولها وظيفة تطبيقية، عبر الانفتاح على المجتمع المحيط بعلم أساتذتها وخبراتهم، والدكتور المزيني مثال حي على الأستاذ الجامعي المتفاعل مع قضايا مجتمعه، وهذا لا يعيبه، بل يجعل له مزية على زملائه تشهد له بالكفاءة، والنيات دومًا لا تحاكم، فلا يقال إنه بهذا يبحث عن شهرة، والمعلمون وحدهم الذين لا يحتاجون للبحث عن الشهرة، فمن يمرون بهم من أجيال التلاميذ ينشرون لهم ذكرًا في كل اتجاه وشهرة لا تموت. الوقفة الخامسة: اختلف مع فكر الإخوان، وقد رفضت الانضمام إليهم شابًا، وقد سعى سعيد رمضان لضمي إليهم، ورأيت لهم في بلادي مواقف شاذة لم أرضها، وأنا رجل، وهذا وأنا شيخ لا أزال على موقفي، ولكني لا أحكم عليهم بحكم عام يشملهم جميعًا، ففيهم من إذا اقتربت منه عرفت سلامة توجهه، ولكن الإخوان المسلمين، الذين فتحت بلادنا أبوابها لهم في الثمانينيات الهجرية، وعملوا في مجالات عديدة متصلة بتوجيه الشباب، في التعليم والمؤسسات الدينية كلها، أثروا في شبابنا، فأصبح لدينا إخوان مسلمون سعوديون بين من قيل لهم بعد ذلك رموز الصحوة، ولكن خطرهم إنما تفاقم لأنهم استخدموا ثقافة غلو وتشدد متجذرة في فكر بعضنا، وبنوا عليها ليغتالوا كل وسطية واعتدال كانت تسود في ثقافتنا، وهذا التزاوج بين ثقافتهم وثقافة غلو وتشدد متجذرة في ألوان من ثقافاتنا المحلية هو الخطر ذاته فبعض ثقافتنا المحلية خطر عظيم، ولبعض الإخوان المسلمين اعتدال محسوب لهم وإن كانوا قلة. الوقفة السادسة: قضية الجهاد في أفغانستان، التي شارك فيها من شبابنا كثيرون بتشجيع منا، ثم ارتدوا إلى مجتمعنا بعنف كان خطره علينا عظيم، مما دعانا إلى مواجهته أمنيًا بعنف أيضًا، تلك الفترة تحتاج منا إلى دراسة علمية ميدانية واعية، حتى يمكننا أن نتجنب مثلها مستقبلًا، خاصة أن منا من يبشر بجهاد كلما وقعت للمسلمين مشكلة في أي صقع من أصقاع العالم، والجهاد كمصطلح فقهي يحتاج منا إلى دراسة جماعية، لنعرفه تعريفًا دقيقًا لا نختلف عليه، ولنعرف شروطه وقيوده، ومتى يكون ومتى يمتنع، لأننا إن لم نفعل، أصبح كل بغى عند جهلتنا جهادًا، يدفع إليه شبابنا، كما يحدث دومًا بنظر جهلة لإغرار من الشباب عن الجهاد، ويدفعونهم إلى شتى بؤر الصراع في هذا العالم يقتلون أنفسهم، ويتدربون على العنف ثم تكون هجرتهم العكسية إلى بلادنا ليقوموا بعنف قذر في ديارنا، فيزهقون الأرواح، ويعتدون على الممتلكات. الوقفة السابعة: ما أسماه أخي الدكتور حمزة مبدأ التحوط، هو في ثقافتنا الفقهية يعني الخروج من الخلاف، فكل مسألة وقع فيها خلاف بين العلماء اعتبر من الشبهات التي يجب تجنبها، فيؤخذ بالقول الأكثر احتياطًا للدين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وان لكل ملك حمى وحمى الله محارمه)، ويكون الخروج من الخلاف بفعل ما اختلف في وجوبه، وترك ما اختلف في تحريمه، ومن هنا جاءت القاعدة التي تقول: (إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام) وقاعدة (إذا جاء الحاضر والمبيح قدم الحاضر على المبيح) ولكن الأخذ بهذه القواعد عند من يقول بها هو الاستحباب لا الوجوب، والمشتبه فيه قد يكون مباحًا فلا يمنع، ولكن ينازع هذه القواعد الكثير من القواعد والمقاصد، مما يجعل الأخذ بها فردى على سبيل الورع، ولا يفتي بها للعامة، فالأخذ بالأيسر سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ويشهد لذلك الكثير من الأدلة، فما خير سيدي رسول الله عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا واختار أيسرهما، كما روت لنا ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كما أن من مقاصد الشرع رفع الحرج فالله يقول: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) ويقول: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) ومن مقاصده أيضًا التيسير على المكلّف، فالله عز وجل يقول: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ويقول سيدي رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)؛ لذا جاءت القاعدة (المشقة تجلب التيسير) التي بنيت على الرخص التي شرعها الله لعباده، والتي أعلمنا سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله يحب تؤتى كما يحب أن تؤتى العزائم. ولكننا في زمان فيه المدهش من الغرائب، يفتي العامة بالأحوط، ويأخذ المفتي بالأيسر له، ويفتي الناس بالأشق ويأخذ من أفتاهم بالأيسر له.