الوحدة هي الغاية، أما التعدد فهو الوسيلة التي يكتمل بها معنى الحياة. فالحياة تمثل الكائن الحي الذي يتكون من أجزاء «أعضاء» ومن تفاعل تلك الأعضاء مع بعضها البعض يكتمل الإنسان الواحد كما يقول هيجل. والمجتمع يمثل الغاية الكبرى، ومجموع أفراده يمثلون وسيلة النهوض به. هذا ما بدا واضحًا في كارثة جدة، تضافرت جهود أفراد المجتمع، واندفع الآلاف من الشباب والشابات لتقديم يد العون للأسر المنكوبة في سيل أربعاء العام الماضي، وفي الأربعاء الأخير نضج الوعي بقيمة العمل التطوعي. ولأن المجتمعات الإنسانية اتسعت وتمددت، لذلك لا بد من تنظيمها في مؤسسات وجماعات كي يسهل الترابط بينها من خلال (التشبيك) والشراكة بين المنظمات والمؤسسات، وأفراد المجتمع، وهو ما ظهر في كارثة جدة، العام الماضي؛ حيث تم تنسيق جهود الجمعيات الخيرية العريقة «الجمعية النسائية الخيرية، والجمعية الفيصلية» بالإضافة للجمعيات الحديثة، التي تحمل صفة «خيرية» رغم هذا ظل الآلاف من أفراد المجتمع القادرون على العطاء المادي والإنساني مبعدين عن مد يد العون للمنكوبين أو لرجال الدفاع المدني أو حتى للجمعيات العاملة في مجال الخير، لأنهم ببساطة غير منخرطين في مجتمع مدني حقيقي! لذلك أصبحت منظمات المجتمع المدني ضرورة إنسانية واجتماعية؛ فهي لا تقتصر على المجال الخيري المحصور في تقديم العون المادي بأشكاله المختلفة إلى الفقراء والمحتاجين أو تقديم الدعم الصحي، بل كونها تستنفر كافة الطاقات في الكوارث والأزمات بشكل سريع ومنظم. استطاع شباب جدة وشاباتها، أن يحرزوا إعجاب المجتمع، ويلفتوا انتباه العالم، خلال كوارث سيول جدة المتلاحقة والمأساوية بالإقبال المنقطع النظير على العمل التطوعي بروح فدائية وبمهنية عالية. لم أتوقع أن تقع عيني على ذلك العدد من الشباب والشابات، ولا على تلك الكميات المهولة من تبرعات تجار جدة، ولا ذلك الحجم من العمل المنظم لعمليات تقديم المساعدات لمتضرري سيول الأربعاء الأخير الذي أغرق جدة من الوريد إلى الوريد. كأنك في خلية نحل، الكل مشغول بما هو مكلف به، التعبئة على قدم وساق، لأن اليوم الذي تمكنت فيه من الذهاب كان يوم الأربعاء أيضا آخر يوم للانتهاء من توزيع ما تبقى في مركز الحارثي من تبرعات! أخذتني الابنة رنا الدغيثر، مسؤولية التنسيق الإعلامي بين المركز ووسائل الإعلام، التي اقترحت (شباب جدة بخير) بدلًا من شعار (جدة غير) لأن الأول يعبر عن واقع الشباب في هذا العصر، الذي فتح لهم آفاق المعرفة، ودعمهم بالمهارات المختلفة، حولتهم إلى قوة مؤثرة في كل نشاط! أخذتني «رنا» في جولة مفصلة على أقسام المعرض، والتقيت بالدكتورة لمي السليمان نائب رئيس الغرفة التجارية وهي المسؤولة عن هذا التنظيم الحضاري، وفي عجالة حاولت أن تشرح لي طبيعة العمل وما الذي يحدث أمامي، ثم أكملت «رنا» الشرح المفصل. بجوار باب دخول الشاحنات قسم الجودة، يقف فيه شباب وشابات، لفرز المواد الغذائية، والتأكد من تاريخ صلاحيتها، وتوجيهها للقسم المخصص، ثم تبدأ الأقسام: المفروشات، المواد المكتبية، احتياجات الأطفال، أدوات نظافة، مواد تنظيف، أدوات مطبخ، ملابس لجميع أفراد الأسرة. التنظيم والتنسيق، المسح الميداني واستقبال التبرعات، المتطوعين والمتطوعات، تقسيم العمل حصر احتياجات الأسر وتوصيلها، كلها تؤكد وعي هذا المجتمع ونضج شبابه وشاباته وحسهم الوطني والإنساني. أخبرتني د. لمى السليمان أن من تجار جدة، من أرسل عدد من المختصين في التصنيع والتعبئة، كي يساهموا في تنفيذ العمل بمهنية وإتقان. الجميع انخرط في منظومة واحدة لتحقيق هدف واحد هو مساعدة المتضررين الذين وجدوا أنفسهم فجأة خارج كل شيء وبدون أي شيء! هذا النجاح لابد أن يجير لتجار جدة وشبابها وشاباتها، ونساء ورجال لديهن حس إنساني عالٍ جدًا دفعهم إلى هذه الهَبّة الجماعية كل منهم يقدم أقصى ما لديه مضحيًا بوقته وجهده أو متبرعًا بكل ما يقدر عليه. يقولون: (رب ضارة نافعة) وكارثة العام الماضي مع كل الأضرار والمآسي إلا أنها أثبتت أننا مجتمع خير بالدرجة الأولى، أستطاع أن يقدم كل ما يستطيعه من تبرعات عينية ومادية وجهود تطوعية في شتى المجالات، وكارثة هذا العام دعمت هذه الصورة وعممتها على ما يبدو فظهرت حملة (طوق) في المنطقة الشرقية لمساعدة متضرري سيول جدة. قرأت ما كتب عن الحملة في المؤشر الإعلامي، ثم رأيت تقريرًا عنها في قناة العربية أعجبني التنظيم وتقسيم العمل والدقة في العمل كما أعجبني العمل في مركز الحارثي، وأعجبني حماس شباب حملة ( طوق) وهم يعبئون المواد الغذائية لمساندة سكان مدينة تبعد عنهم كثيرًا، لكنه الحس الإنساني، ورهافة مشاعر الشباب وحيويتهم التي لا بد أن تحترم وتقدر وتشكر وتستثمر. كافئوا الشباب والشابات بالثقة وتوفير الأندية الرياضية والثقافية والمنظمات الأهلية كي ينخرط فيها الجميع، ليكونوا يدًا واحدة في مواجهة التحديات المناخية والبيئية والفكرية! لم تنس الشؤون الاجتماعية وهي مؤسسة حكومية أن تكون متواجدة لإثبات الحضور من باب خشوني لا تنسوني! هذا العمل الجبار مجهود لم يكلف وزارة الشؤون الاجتماعية قرش ولا ريال كي تخطف هذا النجاح من صناعه الحقيقيين! أما بالنسبة للجمعيات الثقافية والأندية الأدبية المنبثقة عن وزارة الثقافة فلم يسمع لها صوت وكأن أعضاء مجلس إدارتها أكبر من الانخراط في هذا التجمع الواعي للعمل التطوعي خلال أزمة جدة وكأن مهمة المثقف والأديب والفنان مبتورة عن هذا السياق التعددي أو أن إحساسهم بالنخبوية طغى على المشاعر الإنسانية وامتد حاجزا بينهم وبين ما خلفته الكارثة من ضحايا ومشردين أو أنهم في عالمهم الإبداعي هائمون! [email protected]