قد تصمت الشعوب المقهورة طويلًا لكنها لا تستسلم، ذلك أن الظلم وغياب العدالة، ومعها غياب الأمن النفسي والاجتماعي عوامل تقتات الصبر والهدوء. الخوف أيضًا من المجهول الذي دائمًا يرافق الأنظمة الظالمة على مر تاريخ المستبدين. عوامل عديدة تسهم في التبلد والرضا بمظاهر التسلط والاستبداد التي تتفوق في القمع ولكن لفترة فقط. ولدينا من التاريخ أساطير لكنها حقيقة على نماذج من أدوات القمع والتعذيب والتنكيل بالمناوئين للسلطة حتي لو كانوا على حق. من صفحات التنكيل بالقمع ما أصبح قمعًا للأغلبية من جماهير الشعوب وليس فقط المعارضين في العديد من الدول وهذه المأساة الكبرى فعندما يعم العذاب والحرمان وتزداد مساحات الفقر والظلم ويضطر الشباب للهروب من أوطانهم بحثًا عن لقمة العيش خارج ذلك الوطن، فتلك مؤشرات بداية انحراف مسيرة تلك السلطة واهتزاز الكراسي تحت هؤلاء الرؤساء. تاريخنا المعاصر زاخر بثورات على الظلم والتسلط وعلى السلطات الحاكمة رفضًا للمزيد من هذا القمع والتعذيب وغياب العدالة والإجحاف في تأمين لقمة العيش لهم ومنها ثورة إيران على الشاه التي كانت غير متوقعة، والتي تلت تلك الاحتفالات الباهظة الثمن احتفالا بالشاهنشاهية العظمي، احتفالات أسطورية صرفت عليها مبالغ طائلة ودعي لها الرؤساء من أنحاء العالم وما يسلتزمه هذا الحضور من تأمين الفنادق والقصور الفاخرة ناهيك تأمين الأمن لكل رئيس أو مدعو! في الوقت الذي كانت شريحة كبرى من الشعب الإيراني يعيش مستوى من الفقر لا يليق بدولة يمثل اقتصادها تنوعًا يتفق وجغرافيتها وثرواتها المادية. ترافق هذا البذخ بنشاط السفاك في تعذيب واغتيالات المعارضين لتلك السلطة، وكان لا بد أن تحدث النتيجة، وتمت الثورة على الشاه وطرد من وطنه ومات خارجه طريدا وتفرق أفراد أسرته وانتحرت احدى بناته لأنها لم تتعود أن تعيش خارج الحياة التي تعودت عليها في قصور إيران، ولحقت بها الإمبراطورة فرح التي كانت ملء السمع والبصر في الإعلام! منذ أسابيع انتحر ابنه الثاني في منزله في إحدى الولايات الأمريكية! قد يسأل سائل وهل وضع إيران الآن الأفضل؟ تلك قصة أخرى! تكرر المشهد مع ما حدث في تونس وأخيرا في مصر، عوامل الثورة متوفرة في جميع الأحوال فإذا توافق الفقر المدقع وتغييب العدالة مع التعذيب التنكيل، فإن النتيجة في تلك البلدان هي الانفجار. ما حدث في ميدان التحرير من قبل الشعب المصري لم يكن حدثًا عاديًا بمقياس ثورات الشعوب فشعارها (السلمية) ونفذت هذا الشعار، ورغم الخوف على هؤلاء الشباب يقودون الثورة ويفتحون صدورهم لرصاص القناصة وبلطجية تم شراء أصواتهم وإطلاق العنان لحنقهم على كل شيء!! على الفقر والعشوائيات وسكنى المقابر، وصفعات رجال الأمن!! فكان الضحية هو أخوهم المصري الغض الأعزل من السلاح المادي المشحون بسلاح الصبر واليقين في النصر. مشاهد مذهلة لا يمكن أن ينساها المشاهد العربي من الخليج إلى المحيط فقد انتقلت سيناريوهات التعذيب من أقبية المعتقلات ووجدت طريقها القاسي الى ميدان التحرير دهسًا وقنابل غازية ومسيلة للدموع وتسليط خراطيم المياه على المصلين!! فكانت أيامًا عصيبة لمعظم الشعوب العربية - كما أتوقع - لأن القاسم المشترك وهو البحث عن الحرية والعدالة والتوزيع العادل لثروة تلك الشعوب فيزداد ثراء الأثرياء وفقر الفقراء، وتكون الغلبة لأصوات المادحين الذين تتغير مصطلحاتهم مائة وثمانين درجة إذا ما تغيرت السلطة التي كانت في الحكم في تلك الدول، يحدث الشرخ الاجتماعي بين الحاكم تلك الأنظمة وشعوبها ، وتصبح الحياة مستحيلة وتتساوى مع الموت، لهذا كان الشباب هو الفتيل الذي أشعل الشرارة الأولى لحركة تلك الشعوب. إن مقولة إن الشعب المصري لا يهمه إلا قوته وغذائه هي مقولة تنم عن احتقار لذلك الشعب وعدم احترامه، كما أنها لا تعبر عن واقع الأمر فالمواطن البسيط هناك الذي يسعى لتأمين قوته تهمه أيضا وبدرجة كبيرة حريته وكرامته وفوق كل اعتبار كرامة الوطن. وهذا ما كان يردده شباب 25 يناير في أرجاء مصر. بل حتى البسطاء والعمال، والأمهات، والأطفال، كأنما هناك تخزين نفسي لجميع هذه المشاعر والدلالات على مدى عقود لم يأبه النظام لمؤشراتها إطلاقًا ولم يتدارك سعيرها قبل أن يستفحل. مشكلة بعض الأنظمة المتسلطة أن الرئيس فيها يختزل الوطن والشعب في شخصه، فنجده من خلال أجهزته الإعلامية يفرض وجوده في حياة المواطن قسرًا فنجد صوره تملأ الميادين بأحجام هائلة وكما كان صدام حسين وتماثيله تملأ شوارع وميادين المدن العراقية بأحجام هائلة وقيل ان كل احتفال بعيد ميلاده يتم غرس المزيد من الصور والتماثيل والجداريات لشخصه.. وهذه خصائص لا نجدها في المجتمعات الغربية والأوروبية، فلا صور ولا تماثيل للرؤساء في الميادين، إلا عند الانتخابات ترافق الحملة الانتخابية ثم تختفي بعد ذلك. أما في بعض الدول العربية لا تزال هذه الصور إلا بيد المتظاهرين تمزيقًا وإسقاطًا من الأبنية والبعض يدوس علىها بالأقدام. فليت بعض هؤلاء الرؤساء يسارعون إلى إزالتها بأنفسهم قبل أن تداس. **وكم هو مهم وقد اختار الشعبين التونسي والمصري الطريق الأمثل لإدارة حياتهم من خلال تحقيق العدالة والكرامة والأمن، وأن يحذر الثوار، فالانتصار في المعركة الأولى لا يعني بأي الأحوال كسب الحرب فالمعارك القادمة أكثر صعوبة وخطورة فتاريخنا المعاصر فيه العديد من الأمثلة على تحركات شعبية أزالت رموز أنظمة مستبدة ثم جرى احتواؤها من قبل النظام نفسه الذي أعاد إنتاج نفسه بوجوه جديدة. **اللهم آمنا في أوطاننا، وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك ويذل فيها أهل معصيتك. • أكاديمية وكاتبة