أستأذن قارئنا العزيز عذرًا لاستخدام مصطلحين إنجليزيين معبرين. المصطلح الأول هو Proactive، ويقصد به أننا نعمل كل ما في وسعنا من أجل أن نكون وقائيين قدر الإمكان، أي قبل وقوع الحدث، وبعبارة أخرى أكثر وضوحًا، أي قبل وقوع الفأس على الرأس، والمصطلح الثاني Reactive ويقصد به أننا مندفعون، أصحاب ردود أفعال فقط، بمعنى آخر أننا لا نتحرك إلا بعد وقوع الفأس على الرأس، أي بعد وقوع الحدث. ولتوضيح المصطلحين أكثر، للقراء الأعزاء، نورد هذا المثل البسيط، لو أن هناك طائرة تنقل المسافرين ولكن نقوم بصيانتها أولًا بأول ولا ندعها تطير بأرواح الناس إلا وهي مفحوصة فحصًا شاملًا دقيقًا ونتأكد من سلامة محركاتها وغيرها من الأجهزة الملاحية فإننا بهذه الطريقة ينطبق علينا المصطلح الأول الوقائي، ولكن عندما تقع الطائرة وتتحطم، ونندفع بعد سقوطها مهرولين لتقصي الحقائق والأسباب التي أدت إلى وقوعها وتحطمها، بعد أن أزهقت أرواح أبرياء، فإننا هنا ينطبق علينا المصطلح الثاني الاندفاعي أصحاب ردود الأفعال بعد وقوع الطائرة. إذن هذا هو الفرق بين المصطلحين. وكثيرا ما نسمع مصطلح “الضربات الاستباقية” وهي ترجمة للمصطلح الإنجليزي Preemptive Strikes والذي نجحت في استخدامه قوات الأمن السعودية الباسلة عندما حاربت وما زالت تحارب الإرهاب والإرهابيين، فهو يجسد المصطلح الأول Proactive، أي مباشرة الأحداث قبل وقوعها، أي قبل أن يقع الفأس على الرأس. ولكن لو ترك الإرهابيون يعيثون في الأرض فسادًا بتدمير الحرث والنسل ومقدرات ومكتسبات المجتمع، وإزهاق أرواح الأبرياء فإننا هنا نكون اندفاعيين متقاعسين لأننا نباشر الأحداث بعد وقوعها وهذا يجسد المصطلح الثاني Reactive. بالطبع ما جعلنا نورد المصطلحين الإنجليزيين السابقين هو ما يحصل الآن في عالمنا العربي من انعدام الجانب الوقائي في بعض دولنا العربية، فالبعض من تلك الدول لا يعمل للمجتمع أعمالًا فيها صيانة ووقاية له، ولا يتنبه إلا بعد أن يحصل الحدث، ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر النظام التونسي السابق الذي منع الناس من ممارسة معتقداتهم الدينية بكل حرية، واللافت للنظر أن الرئيس التونسي السابق كان قد صرح في خطابه الأخير بأن هناك “ثلاثمائة ألف وظيفة” تنتظر التونسيين؟!! ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان!! فلو قام قبل أن تبدأ انتفاضة التوانسة -وعربة الخضار التي يشار إليها بأنها القشة التي قصمت ظهر البعير- بتوفير الوظائف للتونسيين طالما أنها موجودة لديه قبل ذلك مع إعطائهم حرياتهم الدينية لما حصل ما حصل ولاستمر النظام قائمًا. ولو أخذنا النظام المصري مثالًا أيضًا لوجدنا أنه الآخر ذهب ضحية وقوع الفأس على الرأس على الرغم من أن هناك بونًا شاسعًا ما بين النظامين، حيث يعتبر النظام المصري أفضل من النظام التونسي في ممارسة الحريات الدينية، وهناك هامش من الحرية لا بأس به، ولكن ما أطاح بالنظام هي الطبقة الوسطى من الشباب الذين يبحثون عن عمل وأجور مجزية وسكن وخلافه، والذين يعتبرون أنفسهم ضحايا سياسات الحزب الحاكم. وزير الخارجية المصري، أحمد أبو الغيط، أوضح في مقابلة معه في قناة العربية بأن “الأسباب التي أدت إلى هذه التظاهرات هي: انتخابات مجلس الشعب الأخيرة والتي فاز فيها الحزب الحاكم بأغلبية ساحقة نتيجة تزويرها، وقال أيضًا: إن أداء الشرطة المصرية كان له دور كبير جدًا في إثارة الشارع المصري، وأشار إلى كثرة المقالات والتي تتحدث عن علاقة المال بالسلطة وكيف يستغل رجال الأعمال مناصبهم في تحقيق المصالح الشخصية لهم”. انتهى النص المقتبس. رجال الأعمال المنتفعون في الحزب الوطني الحاكم، هناك حديث في الشارع المصري أنه كان لهم دور كبير في المطالبة بإسقاط النظام، حيث بنوا ثرواتهم على حساب الشعب المصري، والنائب العام المصري تحفظ عليهم وعلى أموالهم ومنعهم من السفر حتى تتضح الحقيقة، وكذلك الأجهزة الأمنية التي كان لها دور في إسقاط النظام والتي تمادت في تجاوزاتها لصلاحياتها وللأنظمة والقوانين. نعود للمندفعين وليس للوقائيين لأن الوقائيين دائما هم على بر الأمان، هؤلاء المندفعون الذين لا يتحركون إلا بعد أن تقع الفأس على الرأس لأنهم لم يستعدوا بإجراءات وقائية احترازية تجعلهم يتقون شر القادم من الأيام، وانه من المحزن جدا أن تجد أنظمة كبيرة تُجبَر أن يتركوا سلطاتهم ليس أمام شعوبهم فحسب بل أمام هذه التقنيات الاتصالية الحديثة التي يسمعها ويقرأها ويشاهدها مئات الملايين من البشر في هذا الكون، والذي تحوّل إلى قرية صغيرة محاصرة من قبل الفيس بوك، وتويتر، واليوتيوب، والبلاك بري ومواقع الدردشة والأخبار والهواتف النقالة إلى غيرها من وسائل الاتصالات الحديثة. والفضل الآخر لما حدث بل السبب الرئيسي له يعود للغرب الذي يلهث وراء مصالحه فقط، فإذا رأى في نظام ما أنه لم يعد يخدم مصالحه في المنطقة تخلَّى عنه، فالغرب ليس له صديق، وصديقه الوحيد هو مصالحه فقط، أين توجد ومن سوف يحافظ عليها..؟! أما إسرائيل فقد أصابها الفزع برحيل النظام المصري، لأن هناك اتفاقية سلام وقَّعها الرئيس الراحل محمد أنور السادات وحافظ عليها الرئيس مبارك منذ تسلمه زمام الأمور.. وقد قامت السلطات الإسرائيلية في الأيام القليلة السابقة عندما تولى القيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بالاتصال بالمشير محمد حسين طنطاوي لكي يطمئنوا على اتفاقية السلام، وتناسوا أن موضوع المعاهدة وبقاءها أو إلغاءها بيد الشعب المصري الذي نأمل أن ينتخب حكومة ديمقراطية وبرلمانًا يُعبِّر عن رأي الشعب، ودستورًا جديدًا، لكي تُراجع جميع المعاهدات الدولية ويتم التصديق عليها. وقد كان من مطالب شباب الثورة المصرية أن يكون هناك استفتاء على تغيير الدستور، وإجراء انتخابات رئاسية حرة نزيهة، وحل مجلسي الشعب والشورى وإجراء انتخابات أخرى جديدة، وهذا إذا ما تم سيجعل إسرائيل تُدرك جيدًا أن زمن الغطرسة قد ولَّى، لأن هناك شعب مصر يقف لهم بالمرصاد بعلمائه ومثقفيه وإعلامييه وسياسييه وقوة الجيش المصري، الذي لقن إسرائيل درسًا في حرب أكتوبر، ولولا الأخطاء التي ارتكبت لكان الطريق مفتوحًا إلى تل أبيب من قِبَل جيش قوامه مليون جندي بطل. [email protected]