** تعرضتُ في حلقات سابقة للمشهد الشعري في مكةالمكرمة مع نهاية القرن الثالث عشر، ومطلع الرابع عشر الهجريين، وتوقفنا خاصة عند عبدالواحد الأشرم 1278-1311ه وحسن سحرة، ويُعرف ب(صحرة) أيضًا، وينتمي لأسرة معروفة في مكَّة -حتى هذا التاريخ- وكان (صحرة) معاصرًا للأشرم، كما توقفنا عند العلاقة التي كانت تربط الأشرم بشاعر المدينة عبدالجليل برادة “1240- 1327ه”، وتأثرهما بالشاعر أبي تمام؛ ممّا يدل على بوادر للتجديد عند شعراء تلك الحقبة التي يذكر الناقد عبدالله الحامد أن من سماتهم الشعرية (الظرف، وخفة الروح، وهي صفة عُرف بها القوم منذ القدم، وعُرفوا بها منذ أيام العرجي، وعمر بن أبي ربيعة، والأحوص)، انظر: (الشعر في الجزيرة العربية خلال قرنين: عبدالله الحامد، ط1، 1402ه- 1981م، ص: 401). ** إلاّ أن شاعرًا مكيًّا آخر رأى دارسو تلك الحقبة جزالة في شعرة، ورصانة في تعبيره، وهو عثمان الرَّاضي 1260ه-1331ه وورد اسمه عند الزركلي ب(عثمان بن محمد أبي بكر بن محمد الراضي)، ناعتًا إيّاه ب“أديب الديار الحجازية وشاعرها في عصره”، ذاكرًا في مصنفاته الأنوار المحمدية في شرح بديعية لأحد معاصريه، وهو من أكمل شرح البديعيات وأغزرها مادة في الأدب، وله اهتمامات تاريخيه مثل نقد الرحلة الحجازية للتبنوني “انظر: الأعلام خير الدين الزركلي، ط7، 1986، ص214”. وقد أشار إلى منزلته الأدبية في مداخلة علمية ونقدية أستاذنا الفاضل معالي الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان على هامش احتفالية شاعر مكة -محمد حسن فقي- في احتفالية الدورة الثامنة التي خصصتها أمانة الجائزة برعاية مؤسسها ورئيسها معالي المفكر السيد أحمد زكي يماني، عن “مكةالمكرمة في الشعر العربي”، والتي انعقدت بالقاهرة في 16 ذي الحجة 1426ه، 18 ديسمبر- يناير 2005م. ** ويشير الشيخ عبدالستار الدهلوي إلى أن الشاعر الراضي ينتسب إلى ذلك الجيل الذي جمع بين الثقافتين الدينية والأدبية، ويشير إلى أن من شيوخه السيد أحمد زيني دحلان، كما يشير الدهلوي إلى معلومة هامة، وهي الصلة التي كانت قائمة بين الشخصيات العلمية والأدبية في مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، حيث يقول: (وكنتُ كثيرًا اجتمع به أي “الراضي” في دار أستاذنا المحدّث الأديب إمام الأدب ورئيس المعمرين الأفندي عبدالجليل برادة المدني “انظر : فيض الملك الوهاب المتعالي بأبناء أوائل القرن الثالث عشر والتوالي، تأليف: عبدالستار بن عبدالوهاب الدهلوي، دراسة وتحقيق د. عبدالملك بن عبدالله بن دهيش، ط1، 1429ه -2008م، ج2، ص 180-201. ** ويذكر الناقد الأستاذ حسين بافقيه نقلاً عن الشيخ المؤرخ عبدالقدوس الأنصاري، بأن الراضي كان مواظبًا على قراءة مجلة المنار للسيد رشيد رضا، على قلة من يقرأ (المنار) في ذلك الزمن، ويضيف الناقد بافقيه بأن الأنصاري أورد في دراسة عنه نماذج ممّا سقط إليه من شعره، ومن ذلك قصيدته التي قالها في عام 1304ه مادحًا الشريف (عون) والتي منها: بشائر النصر مقرون بها الظفر فليهنك الملك لا خوف ولا حذر سُست الأمور بآراء مسددة من دونها الماضيان البيض والسمر * انظر: أصول الثقافة الحديثة في مكةالمكرمة، حسين محمد بافقيه، ط1، 1430ه- 2009م، ص: 311-312. ** كما استشهد الباحث المعروف يحيى محمود بن جنيد بأبيات له من قصيدة في التشوّق إلى مكة يقول مطلعها: لا تنكروا شوقي إلى أم القرى وتهتكي بين الورى في ذكرها مشيرًا إلى أن مصدره في هذه الأبيات الشيخ محمد عمر رفيع في كتابه (مكة في القرن الرابع عشر الهجري) “انظر الحياة الثقافية في مكةالمكرمة في القرن التاسع عشر الميلادي، يحيى محمود بن جنيد، كتاب الرياض 1422ه، ص43”. ** وأشرنا في الحلقات السابقة من هذه الدراسة إلى الصلة التي كانت قائمة بين شعراء مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة في تلك الحقبة، وبالرجوع إلى ديوان شاعر المدينة المعروف إبراهيم بن حسن الأسكوبي 1246-1331ه، نجده يتضمن قطعة شعرية للشاعر الراضي، ويقول الأسكوبي في تقديم لهذه القصيدة، وقد وصلني من الشيخ عثمان الراضي هذه القطعة يهنئني بها بعد الشفاء من حمّى أصابتني بالطائف -أي الأسكوبي- ويقول مطلع قصيدة الراضي: أبا عصام صحَّ جسم العلا ونال إذا عوفيت ما أمَّلا ثم يقول الأسكوبي مقدمًا لإحدى مقطوعاته الشعرية، وقلت مجيبًا الشيخ عثمان الراضي أيضًا عن بيتين: يا مغردًا باهت به أم القرى فضلاً وفي كل العلوم ممارس إن قلت: إن الإلف طبع خامس ولديك وجه الأنس بعدي عابس ** وعندما نظم الأسكوبي قصيدته (المفاخرة بين وابور البحر ووابور البر) والتي يعتبرها الناقد الكبير عبدالله عبدالجبار من الإرهاصات التي سبقت مولد الأدب الحجازي الحديث خاصة، وأدب قلب الجزيرة العربية عامة، بعث الشاعر الراضي مقرّضًا قصيدة الأسكوبي قائلاً: هذه شموس زاهرة أم ذي رياض زاهرة؟ لا بل سطور نُظمت في سمط درر باهرة وقصيدة الرَّاضي للأسكوبي في حوالى عشرين بيتًا. انظر: ديوان إبراهيم بن حسن الأسكوبي، تحقيق وتقديم الدكتور محمد العيد الخطراوي، ط1، 1409ه، 1998م، ص: 126-128. ** ويبدو أن الراضي والأسكوبي كانا من الشخصيات التي حظيت بثقة شريف مكة عون الرفيق، والذي تولى إمارة مكة في سنة 1299ه، وظل في منصب الإمارة إلى تاريخ وفاته في جمادى الأولى عام 1323ه بالطائف، وهذا ساعد في إيجاد صلة علمية وأدبية بين شعراء وأدباء المدينتين. ** إلاّ أن العلاقة بين علماء المدينتين المقدستين وأدبائهما وشعرائهما وعلماء وأدباء حواضر الجزيرة العربية عامة، تعود إلى أبعد من تلك الحقبة، وتضرب في التاريخ بجذور قوية وراسخة، إلاّ أننا حاولنا أن نسعى للكشف عن هذه العلاقة في حقبة نهاية القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين حتى نستطيع تكوين تصور نقدي وموضوعي يساعدنا في معرفة ما كانت تزخر به هذه العصور المتأخرة من أدب، كثيرًا ما حجبته عن الدارسين الأحكام التعميمية والمجتزأة.