كلما نظرت في قضية الطلاق، أجد في نفسي من الحيرة والقلق شيئًا أعجز عن إضماره، فالمتزوجون - والمتزوجون حديثًا بالأخص - باتوا يسارعون فيه، مسارعة السجين إلى الحرية، حتى وصلت النسبة إلى أربعين بالمائة (40%)! ونسب الطلاق في تزايد. هي كارثة لم تول اهتمامًا يليق، من الجهات المسؤولة، بما فيها الإعلام ومراكز العلم والدعوة والإصلاح، ولا ندري سببًا لذلك، فحقها حملات لا تقل في الكم والكيف، عن الحملات ضد: المخدرات، والإرهاب، والأنفلونزا.. وكل الأوبئة. فإنها تهدد الأمن: النفسي، والاجتماعي، والخلقي، والاقتصادي. إنها تنقل من حياة الأسرة والتعاون والمشاركة، إلى العزلة الفردية والأنانية وحب الذات. هي تخل بنظام الحياة الطبيعية، وتربك السلم الاجتماعي، وتولد مشكلات كبيرة. إنها ظاهرة خطيرة، فهل نحن مدركون - قبل فوات الأوان - في أي طريق نسير؟ وليس موضوعنا: أسباب ضعف علاج ظاهرة الطلاق. مع أنه يستحق أن يفرد بالبحث، إنما في علل الطلاق وأسبابه. فما الأسباب؟ كل مراقب يدرك: أن التغيرات تحمل معها آثارا إيجابية أو سلبية، بحسب موضوع التغير. الحسن يأتي بالحسن، والسيئ يأتي بالسيئ، والحسن إذا أسيء تعاطيه والأخذ به، انقلب أثره من حسن إلى سيئ. إذا ذهب المريض إلى الطبيب، سأله: عن طعامه، وعن أعماله التي طرأت عليه. فالجسد لا يفسد من ذاته، بل بما يطرأ عليه من خارج، كذلك المجتمع هو كالجسد. وإذا قصدنا إلى معرفة أسباب تزايد الطلاق في العقود الأخيرة، فمن البديهي أن نسأل: ما الذي تغير وطرأ في هذه المدة، المزامنة لتزايد الطلاق؟ سؤال يعرف جوابه الجميع: الذي طرأ باختصار: طفرة مادية، وأوضاع جديدة للفتاة والمرأة، من تعليم، وعمل، وإعلام يبرز الأنثى بشكل غير مسبوق ولا معهود. فهل يمكن اعتبار هذه أسبابًا وعللًا لظاهرة الطلاق؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال، سنذكر سببًا - لا يختلف عليه أحد - هو من أهم الأسباب، هو: الجهل بأحكام الطلاق. 1- الطلاق للعدة الطلاق حكم شرعي، له تفاصيله المحددة شرعًا، ليس مجرد كلمة بها يقع الفراق، بل له: - وقت؛ وهو ما يعبر عنه فقهيًا ب: الطلاق للعدة. - ومدة، ويعبر عنها ب: الطلاق الرجعي. - وعدد، وهو ثلاث مرات. وألفاظ وصيغ، وتعتريه أحوال توجب إعادة النظر في إيقاعه. ويفترض بكل متزوج أن يلم بالحد الأدنى من فقه الطلاق، كيلا يقع في البدعة المحرمة. فإن الشارع قسم الطلاق إلى قسمين: بدعي محرم، وسني حلال. - فأما البدعي ففي حالين: طلاق الحائض، والطلاق في طهر جامع فيه. - والسني في حالين أيضًا: طلاق الحامل، والطلاق في طهر لم يجامع فيه. وهذا التفصيل مهم؛ لأن فيه تحديد الطلاق بوقتين مشروعين فحسب، فمن قصد إلى الطلاق، عليه أن ينتظر الوقت، فالأول: يأتي كل شهر مرة. والثاني: لا يُدرى متى يحل. فإذا حل نظر في أمره، فإن بقي على عزمه فارق، لكن الغالب في هذه الأحوال تغير العزيمة، وصرف النظر عن الطلاق. وكيف ذلك؟ الجواب: لأنهما وقتان: للحب، والميل، والرغبة، وتلاشي الخلاف والخصام، والوحشة، وهذه لا تنتج طلاقًا، بل رباطًا شديدًا. فأحدهما: قصير جدًا، ويقع عادة في الشهر مرة، لساعة وأقل من ذلك. حين تطهر الزوج من حيضها، ثم تتطهر بالاغتسال، وقبل أن تجامع، كما قال العلماء: “في طهر لم يجامعها فيه”، فالطهر ما بين الحيضة والجماع، هو الوقت الأول. فهذا وقت ميل ورغبة في المرأة، والأزواج لا يطلقون زوجاتهم فيه، بل يتربصونه للتقرب والصلة العاطفية، فإنه أشبه بليلة عرس، ويوم عيد بعد صيام. والثاني: طويل نسبيًا، حال الحمل، يمتد تسعة أشهر، كلها وقت لإيقاع الطلاق، لكنها تحمل في بطنها الولد “فلذة الكبد”، والمرأة فيه ضعيفة، والضعف الأنثوي يخضع الرجال. ماذا نرى في هذا التوقيت الشرعي للطلاق؟ نرى في حدّه بهذين الحدين من الزمان، عاملًا مؤثرًا في الإبقاء على رباط الزوجية وضمان استمراره؛ فهما وقتان أرغب ما يكون الرجل في زوجه.. والرغبة في الزوج وإرادة طلاقها لا يجتمعان، إلا في حالة واحدة؛ هي حالة الإكراه. وهكذا، فالتزام السنة يحدّ ويقلل، بل يصرف عن الطلاق. هذا الحكم يكشف جانبًا من سعة علم الله تعالى بمصالح العباد، وحكمة التشريع؛ حيث اختار للطلاق وقتًا، لا يطلق فيه إلا من تيقن أنه لن يقيم هو وزوجه حدود الله. هما وقتان للطلاق نعم، لكن فيهما ما يصرف عنه؛ ليبقى كيان الأسرة محفوظًا من التصدع والتشرذم: “ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون”. فهذا هو الطلاق السني وآثاره، فتعالوا وانظروا في الطلاق البدعي وأثره. وهو: أن يطلقها وهي حائض، أو في طهر جامعها فيه. حالتان تقل فيهما رغبة بعض الأزواج في زوجاتهم: - فأما حال الحيض؛ فلتعذر الاستمتاع ببضعها. - وأما في طهر جامعها فيه؛ فلأنه قضى وطره منها. حينها لا يجد في نفسه ميلًا، وهي حالة تعتري بعض الأزواج، تصل ببعضهم إلى درجة “القرف الجنسي” كما يقولون، تتولد عنه نفرة من جنس المرأة، وليس الزوج فحسب. فبالنظر إلى ما بين الزوجين من عشرة كريمة، وعقد غليظ، وذرية أتت أو هي آتية، وحب وود، وقد أفضى بعضهما إلى بعض، فبذلت له بضعها، ومتعته بنفسها: ليس من المروءة ولا الشهامة، ولا الوفاء وكرم الخلق، بل ليس من الرجولة: أن يستغني عنها حال ضعفها وفقدها المؤقت لتأثيرها الأنثوي، بعدما تمتع بها واستعملها في شهوته حال فورة أنوثتها. فهذا لؤم وخسة في طبع الإنسان، عليه أن يترفع عن هذه الأخلاق الرقيعة، فلا يكون كالذي يظاهر من زوجه حال كبر سنها أو مرضها، ناسيًا بذلها له شبابها. هذا وإنه ضعف مؤقت، سرعان ما تستعيد المرأة وهجها؛ ليذوق المتسرع عاقبة تسرعه، وهكذا الحياة وهج وخفوت.. خفوت ووهج. ومما يحسن قوله هنا، مما يفتح على الناس بابًا للتوسعة والتيسير، ويحد من انحلال الأسرة: أن الراجح من أقوال العلماء: عدم وقوع الطلاق البدعي. وهو قول: طاووس وعكرمة وخلاس بن عمرو ومحمد ابن إسحق وحجاج بن أرطأة وأهل الظاهر ومحمد بن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد، ويروى عن الباقر وجعفر الصادق، ومن المعاصرين ابن باز وعفيفي. [الفتاوى 33/81، زاد المعاد 5/222] ونقل القرطبي عن سعيد بن المسيب قوله: “لا يقع الطلاق في الحيض؛ لأنه خلاف السنة”. [التفسير 18/150] فإن قيل: أليس القول بوقوع الطلاق البدعي، هو قول الجمهور؟ فالجواب: ومن منع هم أئمة يشار إليه، ومن أجاز ليسوا جمهور الصحابة، ولا التابعين، ولا من تبعهم.. ثم ماذا إذا كان قولهم لا يتلاءم مع مقاصد الشريعة، وأوامرها الصريحة؟ فمن طلق زوجه حائضًا، أو في طهر جامعها فيه، فقد فعل بدعة، والبدعة مردودة؛ لحديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد)؛ أي مردود لا يعتد به. كذلك المطلق للبدعة، طلاقه مردود، كالعبادات البدعية والعقود المحرمة. حتى يطلق للسنة. ففي الصحيحين: أن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء يطلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء). ولمسلم: (مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهراً، أو حاملًا). فأمره ألا يحتسبها طلقة، كما في رواية أحمد: (فردها عليه، ولم يرها شيئا). صحيح أن هذا الأثر الفريقان، غير أننا عرضناه على القرآن، فوجدناه مؤيدًا قول المانعين، في قوله: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن)؛ أي وقت استقبال العدة، وهو الطهر بعد الحيض، فهذا وقته الموقوت شرعًا، والله جعل للصلاة والصيام والحج وقتًا، فمن أوقعها في غير وقتها لم يقبل منه، فكذلك الطلاق. ومن القواعد الشرعية: أن ما دخل فيه بيقين، لا يخرج منه إلا بيقين. والنكاح إذا حصل بيقين، لا يخرج منه بطلاق فيه شبهة، اختلف العلماء في إيقاعه للطلاق البدعي. وخطأ خير من خطأين، فالموقع للبدعي، إن لم يصب، يكون قد حرمها على زوجها، وأباحها للأجنبي، وغير الموقع خطؤه واحد؛ هو إباحتها لزوجها. هذا الرأي الفقهي مما يحسن اعتباره من قبل المفتين والقضاة، لعله يسهم في حل مشكلة تزايد نسب الطلاق. قال ابن تيمية: “إن الله تعالى لم يبح إلا الطلاق الرجعي، وإلا الطلاق للعدة”. [الفتاوى33/78]، وقد بينا الطلاق للعدة، بقي الطلاق الرجعي.