سنوات طويلة كانت تحتاجها البشرية في الماضي لنقل رسالة من مشارق الأرض إلى مغاربها، وعقود طويلة (ما بين 30- 50 عامًا) كانت تمر قبل أن تفصح الحكومات الديموقراطية عن حقائق احتجبت، أو وقائع جرى التكتم عليها لاعتبارات تتعلّق بالمصلحة الوطنية، أمّا في غير الحكومات الديموقراطية فالسر في “بير”، وهو لن يخرج أبدًا، ولا حتى بخروج الروح من الجسد!! إلى أن عرفت الإنسانية عصر “ويكيليكس”، حيث يجري تسريب الوثائق، وكشف الأسرار، بينما لم يغادر صنّاعها وشهودها مواقعهم بعد، وإلى ويكيليكس انضمت “جزيرة ليكس” بكشف وثائق -لا مجرد برقيات- تفضح أسرار المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وبين إسرائيل، فيما المفاوضات لم تنتهِ، والمفاوضون لم يغادروا بعد مواقع المسؤولية. وراء عصر “ويكيليكس”، و“جزيرة ليكس” مسيرة طويلة قطعتها الإنسانية لتقليص عاملي الزمن والمسافة، بلغت ذروتها مع ثورة تقنيات الاتصال بما يمكن أن نسمّيه بحق “عصر الصورة”، حيث استطاعت البشرية أن ترصد رائد الفضاء الأمريكي نيل أرمسترونج لحظة هبوطه على سطح القمر، قبل أكثر من أربعين عامًا، وأن تقطع معه لحظة بلحظة، وقدمًا بقدم بضع خطوات فوقه، كانت كافية لنقل الإنسانية من لحظة المشاهدة إلى لحظة المشاركة. في لحظة المشاركة تتجلّى أحداث ثورة تونس، ووقائع غضبة الشارع في مصر، كأحد أبرز تجلّيات عصر الصورة، أو ما بعد سقوط البُعد الرابع (عنصر الزمن)، فالصورة المتلفزة عبر الأقمار الاصطناعية، أو عبر كاميرات الجوال، والتي يمكن نقلها خلال الإنترنت عبر اليوتيوب، أو على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك، أو تويتر، باتت هي المحرك لأحداث بدا أنها تُعيد صياغة شكل الحياة في الشرق الأوسط، فهل بدأت صياغة الشرق الأوسط الجديد عبر الفيس بوك وتويتر؟! وهل الثورات عبر العالم الافتراضي (سايبر وورلد) قادرة على صناعة التغييرات الكبرى (هايبر شانج) في عالمنا؟! فيما يبدو فإن الإجابة غالبًا سوف تكون ب“نعم”، لكن البطل الحقيقي الصانع للتأثير والتغيير هو المعلومة التي لم يعد ممكنًا حجبها طويلاً، إن كان ثمة تباطؤ واضح من قِبل بعض مؤسسات القرار في العالم الثالث في استيعاب تلك الحقيقة، قد يقود بدوره إلى بطء شديد في خطى الإصلاح قد يفتح الأبواب لرياح التغيير على النحو الذي حدث في تونس قبل أسابيع، فبرغم خروج الرئيس التونسي السابق للتحدث إلى شعبه عبر خطاب متلفز، إلاّ أن وعوده بالإصلاح جاءت متأخرة وبطيئة وقليلة (too late.. too little.. too slow). وكان طبيعيًّا بعد ذلك أن يجرف تيار الأحداث مَن تأخّروا في استيعاب فحوى رسالتها. إيقاع الأحداث في عصر الصورة بات بسرعة بلوغ الصورة ذاتها، وبسرعة وصول المعلومة، وبسرعة انكشاف الحقيقة، بل إن التغييرات الاجتماعية والثقافية التي كانت تحتاج في الماضي إلى عشرات -وأحيانًا- مئات السنين حتى تقع، بات وقوعها أسرع، وتأثيرها أعمق، وشمولها أعم. فالصورة التي نقلت الإنسانية من لحظة المشاهدة إلى لحظة المشاركة، باتت هي المحرّك، وهي البطل في بعض الأحيان، وعلى مَن لم يستوعبوا هذه الحقيقة أن يسارعوا إلى فهمها، وإدراك كُنهها، واستيعاب مقتضيات التعامل معها، من أجل انتقال آمن من عصر ما قبل الصورة إلى عصر ما بعدها، فلهذا العصر ما بعده، واستحقاقاته آتية مهما طال انتظار المترددين على أبوابها. المأزق السياسي الإقليمي بمنطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن هو بعض تجلّيات حالة مؤسسات تأبى تفهّم الحقيقة، وتترفع عن التعاطي معها، رغم أن ما حدث ويحدث ليس سوى مخاض عسير لولادة شرق أوسط جديد، لا ينبغي بالضرورة أن يكون على الصورة التي خططت لها قوى من خارج المنطقة، أو قوى من داخلها، تتطلع إلى إعادة صياغة المنطقة وفق حساباتها ومصالحها وحدها، وعلى حساب مستقبل شعوب المنطقة، لكن ولادة الشرق الأوسط الجديد وفق رؤية عربية تستوعب العصر، وتحسن التعامل مع أدواته، تقتضي إفساح المجال أمام عملية إعادة بناء الدولة الحديثة في العالم العربي، التي تأخّرت طويلاً، فيما يهرول العالم من حولنا باتجاه مستقبل فوجئنا بأننا لا نحمل خارطته، ولا نعرف حتى الآن الطريق إليه. الذين خرجوا في تونس مطالبين بالتغيير هم جيل عصر الصورة، والذين تحدّوا مطالبهم، باتوا الآن خارج الصورة، وليس أمام مَن يؤثرون حجب الصورة على تغيير ما علق بها من قبح أن يراجعوا حساباتهم، وإلاّ باتوا خارج حسابات العصر، فقد سقط الحاجز الرابع (الزمن)، وتلاشت المسافات، ولم يعد ممكنًا إخفاء الحقائق طويلاً، فالعولمة ليست قطارًا نملك ترف اللحاق به، أو تفضيل سواه عليه، وإنما هي قطار إمّا أن نكون بين ركابه أو أن نكون تحت عجلاته، هكذا تقول الأحداث، وهكذا تشير الوقائع. [email protected]