جميع أرباب مهنة البناء التقليدي يشيرون إلى أن قيام أول بيت بني باستخدام الإسمنت المسلح قد أعطى إشارة واضحة لمنافسة جديدة من نوعها تختلف جذريًا عما عهدته المدينة واعتاد عليه سكانها في بناء بيوتهم بالأحجار، فهددت المنافسة بقاء البنائين التقليديين وأجهزت على تربعهم على مكانتهم المرموقة في مجتمعهم الجداوي. ونال الاسمنت كمادة بناء حديثة من خبرتهم الطويلة في هذه المهنة الشاقة ومعنى طمس هذه الخبرة أي عودة المعلم لنقطة البداية صبيًا في المهنة التي أمضى حياته فيها يتعلّم من جديد الأساليب والأدوات والمهارات الجديدة التي تختلف عن أدوات ومواد وأساليب البناء التقليدي ويفتح معها صفحة أولى في حياته صبيًا عند أحد المهندسين وهو أمر غير مقبول في كبريائه بأي حال من الأحوال. وكان الإسمنت يمثل قضية في المجتمع وحالة تغيّر غريبة فيه، فلم يكن أحد يشكك في قوة الأحجار ولا في مهارة المعلم البلدي ولا في رجاله وعماله، وإنما كانت في بداية الأمر صيحة جديدة أو تقليعة لا تلبث أن تستمر طويلًا بل كان الناس يشككون في هذه المادة الجديدة وفي هويتها. وكان قيام بيت آل زينل بمادة الاسمنت ودون استخدام الأحجار مثيرًا للناس ومحل استغراب الجميع ودهشتهم وسؤالهم الدائم عن هذا النبت الغريب في أرض المدينة القديمة وهو سؤال يشوبه استنكار وامتعاض لا يخلو من حديثهم، وهنا يرى عبدالقدوس الأنصاري في مؤلفه موسوعة تاريخ مدينة جدة سببًا واضحًا لعدم إقبال الناس على الإسمنت لندرة المياه في مدينة جدة، لأن الإسمنت يحتاج إلى مياه نظيفة بكميات كبيرة. المياه النظيفة في جدة كانت أغلى وأثمن شيء يملكه الساكن في ذلك الحين بالذات، ففي الوقت الذي كانت المياه تشكل أزمة حقيقية عند انتظار الطوابير الهائلة للحصول على زفات المياه العذبة من الكنداسة، كما كانت مياه الكنداسة لا تكفي ولا تغطي الحاجة الفعلية للسكان لذلك كانوا يلجؤون إلى تشييد الصهاريج لجمع مياه الأمطار والسيول، وجميع من كتب عن هذه المنطقة أشار بوضوح إلى هذه الأزمة في مدينة تنام على ساحل البحر الأحمر. وربما كان هناك سبب آخر لعدم اقتناع الناس بالإسمنت وعدم اندفاعهم لاستخدامه في تلك الفترة يعود لقناعة الناس بقوة وصلابة الأحجار المستخدمة في البناء لذلك تمسكهم بها ليس فقط من قبيل التعاطف معه كل قديم متوارث وإنما بقناعة راسخة بجودة عطائها وأحقية تفضيلها واستمرار الاعتماد عليه، فكان من الصعب ظهور أي مادة جديدة على حساب الأحجار، التي كانت تغطي حاجة الناس من خلال وجود المناقب ووفرتها. الناس أيضا كانت تربطهم عاطفة بالأحجار المنقبية التي تستخرج من باطن أرضهم فهي من نتاج بيئة هذه المدينة غير مستوردة من الخارج أي معروف للناس كل مرحلة من مراحل وجودها وتكوينها وصناعتها، وكما يقول المعلم سعيد عبدالعاطي وحسن محول بأن رفض الناس للإسمنت وعدم قبولهم لأي مادة جديدة تسحب البساط من تحت ترسانة مناقب الأحجار كان أمرًا واضحًا للجميع علاوة على تقديرهم وإجلالهم لشخص المعلم البلدي، الذي بنى بجهده وفكره ومخططاته كل بيت من بيوت المدينة وله علاقة عريقة بسكانها فتقديره كان ملموسا من الجميع وحاجتهم إليه كانت ماسة وشديدة. فالعلاقة بحد تعبيرهم مع الأحجار لم تنبن في أيام ولا أشهر إنما امتدت لعمر المدينة المديد صاحبتها قناعة راسخة وأصيلة بمتانتها وصلابتها. وهذا الاختلاف التاريخي بين السكان والإسمنت استمر من 1348ه ببناء بيت آل زينل إلى عشرين عاما حتى عام 1367ه، أي في العام الذي توفرت فيه المياه للسكان بإنشاء الملك عبدالعزيز يرحمه الله العين العزيزية، حيث تزامن بعد ذلك تكاثر ورود الإسمنت من الخارج من مصر وأوروبا وجلبت معه أسياخ الحديد وقد اقتنع الناس شيئًا فشيئًا بالإسمنت بعد أن ظل بيت زينل عشرين عامًا بنفس قوته وبنفس شموخه ومظهره الخارجي، وكان له الأثر في اقتناع الناس بجودة وصلاحية الإسمنت للاستخدام. وكما يشدد المعلمون على أنهم رفضوا رفضًا قاطعًا البناء بالإسمنت بالاتفاق والإجماع، وقد أضربوا لفترة عن البناء لكل من يطلب مادة الإسمنت ويعيبون في استخدام هذه المادة، أما المعلم الذي يستخدم الإسمنت فكان موضع نقدهم وسخريتهم وأعلنوا رسميًا مقاطعة أي معلم مهما بلغ شأنه وارتقت مكانته يثبت استخدامه لمادة الإسمنت وكانوا على ثقة شديدة بأن العمارة الإسمنتية لن تعيش عمرًا طويلًا كحال الأحجار بأدلة وجود البيوت التي يزيد عمرها على مئات السنين. وقد كَسر بيت زينل القاعدة ببنائه الإسمنتي الحديث في جدة، فكان البعض يتوقع انهيار البيت في أي لحظة، كما يؤكد صناع البيوت القديمة إلى الدرجة التي كانوا يحذرون الناس فيها من السير بجانب هذا البيت الإسمنتي لاحتمال انهياره في أي لحظة ووقوعه على رؤوس من فيه ومن يجاوره أو يقف بمحاذاته ومن يسير في الطريق المطل عليه، كانوا يبالغون في وصف عدم قدرته على مجاراة العوامل الطبيعية والمناخية في جدة تلك الظروف التي تجبر الناس على النوم في الأسطح من شدة الحرارة وارتفاع نسبة الرطوبة صيفا، ولأن الأحجار هي من نتاج هذه الطبيعة الصعبة وبالتالي لها القدرة على مقاومة ظروفها. وأول الناس الذين بنوا بالإسمنت هم الإخوة محمد وعبدالله بن لادن لذلك كانوا محل رفض جميع المعلمين ولا يتعاون معهم إلا قلة في بناء البيوت الإسمنتية، ومع الزمن أصبح جميع المعلمين يبنون البيوت باستخدام الإسمنت الذي أثبت أنه أفضل من الخلطة البحرية الرخوة والهشة، واعتقاد المعلمين بأن الإسمنت قد استهدف وجودهم تغيّر مع مرّ الزمن ومع الاتجاه المتزايد للبناء بالطرق الحديثة ورضخوا بالتدريج إلى حقيقة انتشار الإسمنت بعد هجرة الناس للأحجار تمامًا، وسيطر الإسمنت على حال البناء في المدينة وفي ذلك الحين ضعُفت مشيخة المعلمين وأصبح دور شيخهم محدودًا في أعمال بسيطة وسقطت مع ذلك جميع الأعراف والتقاليد والتي كانت تربط أفراد المهنة تحت مظلة واحدة. عودة المعلم إلى صباه.. فرصة تاريخية نادرة كان ظهور الإسمنت مثارًا لحكايات وقصص وتساؤلات الناس، وهذه حادثة حقيقية دخلت تاريخ المدينة من أوسع أبوابه لأنها جمعت معلمين كبار من جدةومكةالمكرمة للتحدي والرهان على قوة الأحجار المنقبية في لحظة تاريخية تقول فيه الأحجار كلمتها في عصر الاسمنت واقتناع الناس بها على حساب البيوت الحجرية. وقد شاهد هذا التحدي جميع السكان، واستمر الرهان لأشهر عديدة تزداد كل يوم فيه تأويلات وتفسيرات وتحليلات جديدة في قهوة أبو القعود التي تتلاقف حكايات المعلمين وتنهّداتهم وهمومهم وقضاياهم خاصة بعد ظهور الإسمنت. وهذه القصة شارك جميع المعلمين في شرحها بالتفصيل لأنها تناولت موضوع الساعة في حياتهم وشغلهم الشاغل وهو الاسمنت الذي نال من وجودهم وقلل من أهمية صناعتهم. وقد لامست القصة وجدانهم المهني ودفاعهم المستميت عن الأحجار وجمعت همومهم ومواقفهم في قضية تاريخية لم تمسّ طائفتهم فحسب بل أشغلت المدينة وسكانها. بدأت القصة بشراء تاجر اسمه حسن مندورة أرضًا في باب مكة وبدأ في بنائها بالإسمنت المسلح وبعد فترة اكتشف مشكلة ارتدادًا زائدًا على الشارع وقدّم له مراقب البلدية تهديدًا بسرعة الهدم خلال مدة محددة وقصيرة غير قابلة للتأجيل ولا الإمهال، وكان عليه تنفيذ أمر الإزالة واقتضت هدم واجهة البيت لتوسعة الشارع، وهذا يعني تعرض أساسات البيت للخطر حاضرًا ومستقبلًا. ولجأ صاحب البيت للمعلم خليل عليمي آنذاك لأخذ نصيحته ومشورته في هذا الموقف الصعب والذي لا يحتمل التأخير ولا التأجيل، ولم يكن أمامه إلا الاستماع إلى توجيه العليمي وشروطه كما هي فقد أجمع له كثيرون عن مهارته وخبرته وشهرته في الصنعة، لكن العليمي كان محاربًا عنيفًا للإسمنت المسلح وعاشق عشق جنوني للأحجار وشديد الاعتزاز بخبرته فيها طوال سنوات عمره أنجب خلالها مواهب عدة من تلاميذه يحملون رؤيته في البناء ويحفظون له الولاء والمعروف، ولديه خبرة طويلة في تأهيل البيوت المهددة بالسقوط لذلك كان اللجوء إليه ماسا ولا رجعة فيه. كأن الفرصة قد جاءت إليه تسير على قدمين ليثب لمتابعي الحدث أن العودة إليه لا محالة ستكون، فلن تزول نجومية صنعته لمجرد اتباع الناس لتقليعة الاسمنت الوقتية فالأحجار باقية طالما أن البيوت لا تزال صامدة بشموخ لا يزيح مرور الزمن بقاءه وتربعها في حارات المدينة القديمة.. فعاد معها إلى صباه وشبابه لكن في هذه المرة ليس طالبا قرب معلمه لنيل المشيخة المهنية والمكانة الاجتماعية وإنما مدافعا عن صنعته وعشقه المهني وتاريخ الأجيال السالفة. وكان الذي في ذهن المعلم عليمي واحدًا لم يتغير رغم طول مناقشته مع المالك، فقد قرر إزاحة واجهة البيت للخلف وترك المساحة اللازمة للشارع دون الإضرار بالبيت، بواسطة (تعليق) البيت وهدم المساحة الأمامية المطلوب هدمها بالقياس المطلوب، وبناء واجهة جديدة للبيت باستخدام الأحجار وأصبح البيت بواجهات خلفية وجانبية مبنية بالأسمنت وواجهة رئيسية مبنية بالأحجار المنقبية في تمازج غريب لأول مرة تشهده المدينة وبذلك أنقذ المالك من هدم كامل شامل للبيت ليس فيه مهلة ولا مقايضة. ولكن مالك البيت حسن مندورة شكك في سلامة هذا الامتزاج في البناء بين الحجر والإسمنت بعد أن أنقذته الأحجار من الموقف الصعب، وكان يريد النهوض بالبيت لأدوار عليا، فخشي أن يبني بالإسمنت على أساس من الأحجار ولا تتحمل الأحجار عبء البناء الإسمنتي عليها، مما أوقعه في حيرة شديدة وخوف شديد من نتائج إلقاء الكتل الإسمنتية على الأساسات الحجرية فكيف يبني الدور الثاني من الإسمنت والأساس في الدور الأول من الحجر المنقبي فاستدعى أكبر معلمي بناء في مكةالمكرمة وهم حسين عجاج وحسن وزيرة مشهود لهم بخبرة ومكانة مهنية كبيرة. وعندما حضروا شاهدوا البيت وفحصوا واجهاته وتمعّنوا ودققوا في هذا الامتزاج الحجري الإسمنتي العجيب وهذه المعالجة الغريبة لهذه الحالة النادرة عادوا لصاحب البيت يضربون كفًا على كف متعجبين من هذه المعالجة البارعة التي لا تخلو من المخاطرة لمن لا يمتلك خبرة كبيرة ومهارة عالية ولم يضيفوا شيئًا لمتانة وقوة البيت غير أنهم شهدوا له بالخبرة الكبيرة وتحملوا مسؤولية البناء على الأساسات الحجرية، وتم بناء دور ثالث فأصبحت الأحجار تحمل الإسمنت وارتكزت الكتل الإسمنتية في جميع جوانبها على الواجهة الحجرية الصلبة. وقد شهدت مدينة جدة بعد هدم سورها عام 1392 ه قيام عمارة (المَلِكة) بشارع قابل يراها الناس من أي اتجاه ومن أي حارة وكانت أعلى بناية على الإطلاق في المدينة وتبدو البيوت الحجرية كالأقزام بجانب هذا البناء الفارع الطول والبالغ القوة والجمال ويصل ارتفاعه إلى سبع وعشرين طابقًا، في ذلك العام شهدت ظهور الأسواق المغلقة فقد خصص الطابق الأول والثاني ليكونا سوقًا مغلقًا مشيدًا بأحدث الأساليب الحديثة ونظم بناء الأسواق ومزود بأجهزة تكييف وكان الناس لأول مرة في هذه العمارة يشاهدون اللوحات الإعلانية الكبيرة والبارزة للشركات والوكالات العالمية. وبدأت مرحلة جديدة من العمران وأعطى ذلك العمارة الحديثة دفعة هائلة فقد دار عنها لغط كثير وشكوك الناس في بداية الأمر بزعامة المعلمين البنائين في طريقة وأسلوب البناء وفي قدرة العمارة الفارعة على الصمود لسنوات واعتبروها مغامرة خاسرة بكل المقاييس وحذروا من السير بجانبها أو مجرد الاقتراب منها لخطر سقوطها في أية لحظة لأن بناءها هش وسريع مما يزيد المسألة ريبةً والأمر فزعًا. ولكن سرعان ما غير الناس آراءهم تلك وأعادوا حكمهم في الأمر مقتنعين بأسلوب بنائها وطريقة تشييدها التي تعبر عن نمط عمراني حديث وشكل متطور شديد المتانة والقوة والسهولة في البناء يختلف تمامًا عن الأسلوب التقليدي والطريقة القديمة التي يتبعها المعلمون بالاعتماد على الحجر والخلطة البحرية والنورة والأخشاب وعيدان الدومة والقندل التي لم تظهر نهائيًا في الطراز الجديد. وعاشت جدة القديمة عصر المباني شاهقة الارتفاع شأنها شأن المدن العالمية الشهيرة فقد ظهر عام 1979 م مبنى تجاري هائل الارتفاع توقف عنده الناس منبهرين مدهوشين من ضخامة بنائه وعلو ارتفاعه وهو مبنى الإدارة الرئيسية للبنك الأهلي التجاري مكون من تسع وعشرين طابقًا. وظهر بعدها مبنى ضخم وفريد وهو مقر البنك الإسلامي للتنمية يُرى بوضوح من اتجاهات مختلفة لضخامته وفرادة بنائه وقد صمم بأساسات وقواعد من الحديد. ظهرت بعدها العديد البيوت المتجددة بأفكارها وأشكالها وفنون صناعتها وتطور أساليب وسبل البناء الحديث حتى بات مشهدها اعتياديا. بينما تبقى البيوت المنقبية في جدة القديمة عمقًا وأصالة وتاريخًا للأجيال القادمة وسؤالًا محيرًا للمعماريين عن هذه اللمسات الإبداعية والمقدرة الجمالية والمهنية في ظل إمكانيات يدوية في قص وتهذيب ونقل ورصّ الأحجار وصناعة الرواشين الرأسية والأفقية ومعالجة الحرارة بالفتحات التي تحتل معظم واجهات البناية وعلى التركيز على إطلالة الواجهات على الجهة ذات الهواء الطيب والرياح المحببة التي تضمن تدوير الهواء داخل البيت ببناء هندسي يتيح ذلك. [email protected]