العمة أم الخير كانت إحدى جاراتنا في الحارة في مكةالمكرمة، كانت امرأة كسّيبة، تنسج الكوافي لتبيعها في شارع الجودرية، أمّا أيام الحج فإنها كانت تطبخ وتبيع الأكل والكفتة للحجاج. كانت مكتفية بدخلها من جهدها، ولا تتطلّع لما لدى الغير، بل كانت هي تقدم لنا الحلوى الليمونية عند مرورنا لزيارتها. انقطعت أخبارها عليَّ منذ 1970م، عند سفري للقاهرة للجامعة، ولم أتذكرها إلاّ العام الماضي بعد أحداث سيول جدة، عندما غرق مخطط أم الخير. حينها تذكّرتُها معتقدًا أن الله قد مَنّ عليها بذلك المخطط من جهدها في بيع الكوافي والكفتة، وحيث آلمني منظر الناس وهم يصارعون الغرق في بيوتهم، وجدت أنه من اللازم عليَّ الذهاب إلى مكة، وزيارة خالة أم الخير لأبدأ معها برنامج مناصحة. بعد السلام عاتبتني على جحودي وغيابي عن زيارتها، فناصحتها ملقيًا عليها خطبة طويلة عن القناعة، وعن عقوبة الإساءة للمسلمين بالطمع والجشع والاستيلاء على ما ليس لها، وذكرتُ لها حديث مَن اقتطع شبرًا من أرضٍ بغير حقه طُوّق به سبعين خريفًا في النار، ثم بيّنتُ لها الفوارق بين أخذ أموال الناس بالباطل والشبهة في المال، ووضّحتُ لها الفرق بين الملكية في الإسلام، وفي دول العالم الأول، وعرّجتُ على بعض المفاهيم الاقتصادية، وفصّلتُ لها ما قاله كارل ماركس في ملكية الأرض كأحد عناصر الإنتاج، وبيّنتُ لماذا انهارت النظرية الشيوعية بانهيار الاتحاد السوفيتي، مع تبيان فكرة اليد الخفية التي قال بها أبو الاقتصاد آدم سميث، ثم شرحتُ عبقرية نظرية الاقتصادي كينز، وفصّلتُ لها منحى الطلب مع تفصيل عمل نظرية القيمة المتناقصة للنقود، مع بيان واضح لفرص الميزة النسبية في الاقتصاد، وشرحتُ لها مخاطر الفارق الطبقي، وخطورة تآكل الطبقة الوسطى على السوسيوايكونومي، وبيّنتُ لها علاقة ملكية الأرض بكل من هذه المفاهيم، ثم عدتُ بها للآيات في أواسط سورة التوبة، وعرجتُ على الغلول والشملة التي يُجرجر صاحبها في النار، ثم بيّنت لها عقوبة الآخرة لمَن آذى المسلمين كائنًا مَن كان، ثم بصوت كله أسى قلتُ لها: ليه يا أم الخير أخذت المخطط؟ ليه غرَّقتِ الناس؟ وأريتها الصور والضحايا. وانفعلتُ في آخر الخطبة صائحًا: النجاة.. النجاة!! يا عمة أم الخير النجاة.. النجاة من النار، فأمامنا يوم عظيم يشيب له الولدان، يا عمة أم الخير أرجعي الأرضَ.. الأرضَ.. الأرضَ، أرجعي الأرضَ قبل سيف الموت، ثم سقطت على الأرض من شدة الانفعال، فنظرتْ إليَّ بكل هدوء قائلة: من صغرك وأنا أقول لأمك ولدك هذا به لحسة، خذيه للسيد يقرأ عليه!! مخطط إيه يا واد؟ أنا ما أملك غرفة، روح شوف مين أخذ المخطط، بلا عمتك أم الخير.. بلا آدم.. بلا جنان. عدتُ يومها راجعًا إلى جدة ألوم نفسي على إساءة الظن بعمة أم الخير، التي اعتقدتُ أنها صاحبة المخطط، فقد اتّضح لي أن ليس لها علاقة بالمخطط، بل سُمّي أم الخير نسبة إلى فعل الخير. ففعلاً هذا المخطط خلق خيرًا كثيرًا، فالعديد من الأطباء، وأساتذة الجامعة اشتروا فيه، فيللاً جميلة ذوات مداخل واسعة، ومواقف للسيارات، فهذا خير لهم، والمخطط قدّم كثيرًا من الخير للمقاول، فهذا قد استفاد بعقد المقاولة، واكتسب خبرة، وأصبحت له صداقات. وهذا خير كبير له. وكذلك المهندس المصمم فاز بعقد سمين، وأخرج فنون العمارة المخزونة في رأسه في شكل نماذج رائعة، وهذا خير عظيم له. ومقاول الطرق قام بالرصف والسفلتة، واكتسب خبرة، وهذا خير كثير له. ومقاول الإضاءة مدّد أسلاكًا وأعمدةً بعقد جيد، وهذا فيه خير عظيم له. والمطوّر قام بعمل جيد، به خير كثير له. أمّا الخير، كل الخير، أجمل خير، وأوسع خير، وأخيَر خير، فقد ناله صاحب الأرض، فقد أتته مزفوفة إليه كعروس في الليلة البيضاء كلها بركة، ونور، وخير على خير. لذا فبكل هذا الخير الذي خلقه له هذا المخطط، لابد أن يُسمّى مخطط أم الخير. وحيث إن عام 2011 الذي حل علينا قبل يومين قد سمّته الأممالمتحدة عام الشفافية، فإني بنفس الشفافية أسأل عن أسماء بعض الشخصيات الواردة أعلاه ممّن نالهم الخير. إن سألت عن اسم صاحب المخطط، فإن رئيس التحرير سيستمتع بمنع مقالي، لكني سأحرمه من هذه المتعة، واسأل فقط عن أسماء الغرقى. [email protected]