لا يزال التدافع على عتبة (الإصلاح) قائمًا على أشده بين التيارين الإسلامي والليبرالي، وكل منهما يدعي وصلًا به، مع مصادرة حق غيره فيه. ولقد استمتعتُ -الجمعة الماضية- بحوار الدكتور عبدالعزيز قاسم عبر برنامجه (البيان التالي) مع المفكر الحر المستقل –هكذا سمَّى نفسه- الدكتور عبدالله الغذامي. ولقد تجلَّى في هذا الحوار الفكرُ الغذاميُّ الذي لا يرى في نقد منهج ما معاداة لأتباعه أو موالاة لخصومه، وأن الناقد هو الذي يرتكز في نقده على الأسس العلمية الصحيحة للبحث العلمي وفق ما يحقق الشرط المعرفي بقطع النظر عن غضب أو رضا طرف من الأطراف. قبل الانطلاق إلى سباق الإصلاح أذكِّر بأن الغذامي هو نفسه من قاد تيار الحداثة في ثمانينيات القرن الماضي، وهو من كتب (حكاية الحداثة) وهو من صفَّق له الليبراليون كثيرًا وجعلوه (العمدة)، فقط حينما نقد –بموضوعية- خصومهم فتلقى ما تلقى من سهام القول من الإسلاميين، وحينما طبَّق المنهج الموضوعي نفسه بحق الليبرالية ثاروا عليه ثورة تشابه ثورة خصومهم بل تزيد، وهو ما يتنافى مع مبدأ حرية الرأي الذي يدندن حوله الليبراليون كثيرًا. لن أتطرق لنقد الغذامي لليبرالية كونه نقدها نقدًا موضوعيًّا قائمًا على الأسس العلمية للنقد، لكنني سأتطرق بشيء من التفصيل لرؤيته حول (ادعاء) الليبراليين بأنهم أول من نادى بالإصلاح الداخلي. لقد أكد الغذامي في حواره على أن الإصلاح «مفهوم إنساني مشترك، وأنه حقوق البشر الكل ينادي بها» ودلل على ذلك بأن الكتابة عن قيادة المرأة لدينا تمت قبل (45) سنة. ولعلني أضيف بأن التيار الإسلامي كان له قدم سبق في عملية الإصلاح، فهو أول مَن لفت النظر لحالة (الفقر) التي تعيشها أسر لا يُعلَم عنها، جاء ذلك في محاضرة أحد المشايخ عن الفقر قبل قرابة عقدين، في وقت كان الحديث فيه عن الفقر جريمة لا تُغتفَر، والتيار نفسه نادى بإصلاح البنوك الربوية عن طريق تفعيل المصرفية الإسلامية، ونادى بالعدالة والمساواة والحرية انطلاقًا من مبدأ «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، «ومتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ونادى بحقوق المرأة كالميراث والحضانة، ونادى بصون الحقوق الخاصة والعامة، وفوق هذا وذاك عمل على إخراج الناس من خرافة القبوريين إلى صفاء المعتقد تحت مظلة رسمية. وهنا لا أنكر جهود بعض الليبراليين في عملية الإصلاح ومن ذلك مناداتهم بحرية الرأي –على الرغم من عدم تمثل أكثرهم لها- وسعيهم لكشف الفساد المالي والإداري، ولا أظن التيار الإسلامي إلا نادى وينادي بهذه الحقوق. إذن فالغايات –في بعضها- متقاطعة بين التيارين، لكن ما يؤخذ على الليبراليين هو مصادرتهم لجهود سابقيهم، وتركيزهم (المبالغ فيه) على الإصلاح الديني فقط، علمًا بأن تلك الإصلاحات جميعها جاءت بها الشريعة الإسلامية، وأرجو ألا أكون قد (خَمَّيْتُكُم) بهذه العبارة -على رأي أحد المُداخلين- التي ليس ذَنْبها أن المنتسبين لها من التيار الإسلامي لم يُفعِّلوها على وجهها الصحيح. إن ادعاء الليبراليين قيامهم بعملية الإصلاح (وحدهم) أمر يفتقر للأدلة والبراهين، والواقع كفيل بتعرية هذا الادعاء، ولذا عليهم أن يقارنوا بين أعداد مَن نُحِّي منهم عن منصبه، وعدد مَن أُوقِف نشاطُه، وغيرها مما لا يخفى على الجميع، مقارنة بالتيار الإسلامي. إذن فعملية الإصلاح -بكل مقتضياته- مطلب مشترك بين الناس ولا يحق لتيار ما احتكاره دون غيره، فلكل تيار أسهُمٌ -قلَّت أو كَثُرت- ومنهم السابق ومنهم اللاحق. فقط يجب على اللاحق أن يحترم جهود مَن سبقه، وإلاَّ تحولوا كما يقول الغذامي إلى (لصوص تاريخ) يسطون على أفكار غيرهم وينسبونها لهم! بقي القول أن ما ورد على لسان المداخل ذاته من وصفه للمملكة العربية السعودية بأنها (ليبرالية) منذ تأسيسها هو أمر يشي ب(شوفينية) يعيشها بعض المنتسبين لليبرالية، وكم كان رد الغذامي صريحًا حين قال «سَمُّوا الناس بما سموا أنفسهم به» ومعلوم أن دستور السعودية الإسلام، وهو ما يؤكده قادتها مرارًا وتكرارًا، فكيف للمداخل أن يصفها بالليبرالية؟ كان حريًّا به أن يغمض عينيه ويتحامل على نفسه لينطق مفردة (إسلامية) فيصف بها دستور السعودية، ثم له أن يضيف بعد ذلك أن السعودية تسعى للأخذ بما يصلح من مبادئ الليبرالية كالدعوة إلى الحرية والعدالة والمساواة..إلخ، لكنها سقطة سيحاسبه عليها التاريخ.