فاجأت المستشارة الألمانية ميركيل الأوساط السياسية مؤخرًا بكلامها الغريب عن فشل فكرة التعددية الثقافية في ألمانيا، حيث طالبت غير الألمان الذين يحملون الجنسية الألمانية بتمثل القيم الألمانية المسيحية. يأتي ذلك بعد جدل النقاب والحجاب في فرنسا وعدد من الدول الأوروبية، وكذلك قضية الرسوم المسيئة، وكل ذلك في ظل الهستيريا التي تصاعدت بعد هجمات الحادي عشر من أيلول في الولاياتالمتحدة. الذين خاضوا في هذه القضية من العلمانيين العرب لم يتعاطفوا البتة مع هموم المسلمين في الغرب، وإرادتهم الحفاظ على هويتهم، ولا مع عموم المسلمين الذين شعروا بالاستهداف، حيث طالبوا مسلمي الغرب بالاندماج الكامل من دون لكن، الأمر الذي يأتي في شق منه نتاج قراءة سطحية لظاهرة تشكل الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، والهجرة واللجوء عمومًا. قراءة تقوم على فلسفة الصدقة أو المنحة من دول مدججة بالروح الإنسانية على فقراء ومساكين، الأمر الذي يستدعي وقفة للرد والتوضيح. بداية لا بد من القول إن قوانين الهجرة واللجوء لا تدخل في صلب مسألة الحرية والليبرالية التي تعني رعايا الدولة الغربية، وإنما هي قوانين تصاغ بناءً على المصالح الوطنية، وإن حضرت معايير الحرية والإنسانية على نحو ما لأغراض الصورة الخارجية والمصالح أيضًا. يؤكد ذلك أنها قوانين متغيرة، والدليل أنها اليوم جزءًا من أدوات اللعبة السياسية والمنافسة الانتخابية بين الأحزاب. لقد صيغت تلك القوانين ضمن بوصلة المصالح الوطنية وحاجات الاقتصاد المدمر بعد الحرب العالمية الثانية (بعض الهجرة كان نتيجة التجنيد في جيوش الاستعمار الغربي). وحين تغدو غير ذلك سيصار إلى تغييرها، وهو أمر قد يحدث خلال المرحلة المقبلة. ولا حاجة هنا إلى التذكير بممارسات تلك الدول المعروفة في الخارج، والتي لا تنم عن ديمقراطية ولا إنسانية بقدر ما تؤكد الأنانية المفرطة بل «الإمبريالية» بحسب التعبير الشائع. قبل الحديث عن فوائد الهجرة للدول الغربية، يبدو من الضروري التذكير بمسؤوليات تلك الدول عن البؤس الذي آلت إليه أوضاع الدول المصدرة للهجرة. وهنا تحضر سنوات الاستعمار الطويلة وما تخللها من تدمير ونهب للثروات، تليها سنوات الاستقلال الكاذب التي تسيّدتها دكتاتوريات مدعومة من الغرب فرضت لحراسة مصالحه القائمة على إبقاء الدول المستعمَرة سوقًا للاستهلاك ومصدرًا للمواد الخام الرخيصة، والعمل بكل الوسائل لمنع أية نهضة حقيقية تضع ثروة البلاد في خدمة أبنائها، بل وابتزاز أجزاء كبيرة منها بصفقات التسلح الضخمة التي لا لزوم لها على الإطلاق. كل ذلك جعل حلم الهجرة يداعب خيال معظم الشبان في الدول المستعمَرة إثر تكريس مصطلح العالم الأول في مقابل العالم الثالث، وأحيانًا النامي، بقصد المجاملة!! لنعد إلى فلسفة الهجرة التي يقوم الشق الأول منها على توفير الأيدي العاملة الرخيصة للمعامل والمصانع، وقد كان ذلك هو أساس الفلسفة الأولى خلال النصف الأول وبدايات النصف الثاني من القرن الماضي. مع أن الحاجة إلى تلك الأيدي لم تتراجع كثيرًا، بل ربما تصاعدت خلال العقدين الأخيرين بعد اتضاح ميل المجتمع الغربي نحو الشيخوخة. أما الشق الثاني من فلسفة الهجرة فيقوم على نقل الأنموذج الغربي من خلال النخب التي تتعلم أو تُستقطب في الغرب، بمن فيها المعارضة. ولعل نظرة متفحصة إلى النخب الفاعلة في دول وحكومات في العالم الثالث ستؤكد غلبة الثقافة الأنجلوساكسونية عليهم، بل إن كثيرًا منهم يحملون جوازات سفر بريطانية وأمريكية وكندية. فيما تحضر الفرنسية على نحو أوضح في الحالة الإفريقية (هذا ما يمكن تسميته الاستعمار الثقافي). هناك شق مهم في فلسفة الهجرة يتصل باستقطاب الكفاءات، بدليل عشرات الآلاف من العقول المهاجرة من الدول العربية في أدق المجالات وأهمها، الأمر الذي تعترف به الدوائر الغربية بشكل عام. لا يغيب البعد الاستثماري الاقتصادي عن فلسفة الهجرة واللجوء، فسياسات الباب المفتوح هي التي استقطبت مليارات العالم الثالث (عوائد النفط بشكل أساسي)، وجعلتها رهن البنوك الأجنبية، والاستثمار في الدول الغربية (في بريطانيا وحدها تستثمر دول الخليج 600 مليار دولار). ثمة بُعد مهم دعم فلسفة اللجوء، ويتمثل ذلك البعد في رسوخ القناعة بقدرة ماكينة الثقافة الغربية على طحن أي قادم من العالم الآخر وصهره في البوتقة الجديدة. وخلال العقود الماضية كان الجيل الثاني من المهاجرين يفقد هويته الأصلية بكل سهولة. عندما تغيرت هذه المعادلة اختلف التعامل مع الجاليات المسلمة. حدث ذلك عندما أفضى الاستهداف الذي تعرض له المسلمون بعد هجمات سبتمبر إلى ردة فعل في أوساطهم تمثلت في المزيد من تمسكهم بهويتهم، فيما ساهمت الفضائيات في صياغة وعي جمعي لجمهورهم وانحياز من قبلهم لقضايا أمتهم، فضلا عن مسألة اللغة التي ساعدت الفضائيات في الحفاظ عليها بعدما كان الجيل الثاني من المهاجرين يفقدها تمامًا في المرحلة السابقة. كان ذلك كله بالطبع، استمرارًا للصحوة الإسلامية التي انتشرت خلال الثمانينات في العالم الإسلامي وامتدت إلى أوساط الجاليات في الغرب، فيما كان لانتفاضة الأقصى في فلسطين دورها المهم على هذا الصعيد. وقد أدى ذلك كله إلى قناعة الغرب باستحالة ذوبان العرب والمسلمين الكامل في ثقافة دول اللجوء. لذلك كله يمكن القول: إن سياسات اللجوء ستزداد تشددًا خلال المرحلة المقبلة، ولا شك أن ضعف الأنظمة في العالم العربي والإسلامي لا زال يشجع على ذلك. والنتيجة أن أسس التعامل مع الظاهرة الإسلامية في أوساط المهاجرين ستختلف إذا لم يبادروا إلى مناهضة ذلك كله بالعمل السلمي ضمن القوانين المتاحة بوصفهم مواطنين لهم حقوقهم أيًا كانت أصولهم. [email protected]