وبعد عرض الكتاب نتوقف في هذا الحوار مع مؤلف الكتاب حول معالم منهجيته لتفسير تلك القضايا العقدية، وكيف يرد على علماء أصول الفقه الذين اقتبسوا مناهج يونانية وطوروها لتأسيس ذلك العلم العريق؟ وكيف يفسر تسامح أو تأول كثير من علماء الحديث في مسألة خلق القرآن؟ وأسباب حالة الاقتراض الفكري من الغرب على حد وصفه، فإلى تفاصيل الحوار: نقدت التفسير السياسي للقضايا العقدية فيما يشبه “التفكيك” لتلك المنهجية لكنك لم تقدم منهجًا أو ملامح منهج لتفسير تلك القضايا والأحداث التاريخية؟ هل كان الهدف من البحث هو فقط رد اعتبار لمدرسة أهل الحديث؟ يندرج بحث "التفسير السياسي" في تحليل ظاهرة باتت من أبرز الظواهر الفكرية في الخطاب العربي المعاصر، وتتمثل تلك الظاهرة في شيوع الخطابات المتوجهة نحو تحليل المنظومات الفكرية المكونة للتراث، وتفكيك البنى التحتية لنظرياتها، والحفر في الجذور المتوغلة في أرضيتها، وقد ارتكزت تلك الظاهرة على أدوات تحليلية متنوعة. ومن تلك الأدوات التحليلية ذات الصبغة المادية: التفسير السياسي للتراث، وقد شملت دائرة هذا النوع من التفسير كل المنظومات المعرفية التي يتكون منها التراث، كالمنظومة السلفية والمنظومة الكلامية والمنظومة الصوفية وغيرها. فجاء كتاب "التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي المعاصر" ليتناول هذا النوع من الأدوات بالتحليل لمقدماتها، وبالتفكيك لمكوناتها، وبالحفر في جذورها الفلسفية، وبالتتبع لتاريخها التطبيقي، وقد اكتشف البحث مدى توغل الإشكاليات المنهجية التي كانت تعاني منها العملية التحليلية السياسية للفكر العقدي. فكان بحث التفسير السياسي مهتمًا بكشف تلك الأخطاء المنهجية ولم يكن منتصرًا لمدرسة أهل الحديث فقط. ومع اهتمام البحث بالجانب النقدي للتفسير السياسي فهو لم يخلو من الإشارة إلى معالم المنهج الصحيح في تحليل التراث، من أهمها: مبدأ التعدد التحليلي، ومبدأ العلاقة التبادلية بين الواقع والذهن، ومبدأ ضرورة التفريق بين السبب والمنطلق، فكل حادثة معرفية لا بد فيها من وجود سبب مثير ومن وجود منطلق مؤثر. لا تتحرك في فراغ تعلم أن القضايا العقدية والفكرية لا تتحرك في فراغ كما أنها ليست حبيسة النفوس وإنما هي تتفاعل في محيط متعدد المؤثرات، أليس حكر تفسير القضايا العقدية في عامل واحد -الديني- كما فعلت هو مخالف لطبيعة الظواهر الاجتماعية والفكرية، كما أنك وقعت في ذات الخلل الذي وقع فيه أصحاب "الرؤية العلمانية" -كما وصفتهم- من المفكرين العرب حين قصروا تفسير نشوء المدارس الفكرية لعامل واحد كذلك هو العامل السياسي فقط؟ لم يكن المقصود من بحث التفسير السياسي رفع الارتباط بين الفكر والواقع، وقد تكرر التنبيه في البحث على أهمية الترابط بينهما، وبيان أثر ذلك على مسيرة الفكر. وتكرر التأكيد في البحث أيضًا على تنوع الأطياف التي اعتمدت التفسير السياسي للتراث، وأن منهم من يحمل الرؤية العلمانية ومنهم من لم يكن كذلك، وقد تفاوت هؤلاء في تفعيل التفسير السياسي من درجة الإقلال والاقتصار على حادثة أو حادثتين إلى درجة الاستغراق المدهشة، حتى صرح حسن حنفي -نتيجة استغراقه المدهش في التفسير السياسي- بأن كلام العلماء في إثبات الأسماء والصفات لله تعالى وإفراده بالحمد إنما كان لأغراض سياسية. وأحب أن نشير هنا - زيادة في الإيضاح - إلى أن تداول التفسير السياسي كأداة للتحليل يكون على مستويين: الأول: المستوى المنهجي وهو: أن ينطلق الباحث من رؤية معرفية خاصة تؤدي به إلى تصيير كل التراث أو أكثره منطلقًا من رؤية سياسية بحتة، كما عمد حسن حنفي إلى تقسيم التراث إلى نوعين: تراث السلطة وتراث المعارضة، وانتهى إلى أن التراث العربي كله مرتبط بالصراع الطبقي في المجتمع! وهذا المستوى غالبًا ما يفعّل عند أصحاب الرؤية العلمانية. الثاني: المستوى التداولي المجرد، والمراد به: أن يعتمد الباحث التفسير السياسي في حادثة فكرية معينة بناءً على معطيات خاصة محيطة بتلك الحادثة، ولا ينطلق من رؤية معرفية شاملة، وغالب من يتعاطى هذا النوع لا يكون من أصحاب الخطاب العلماني، فلا شك أن عددًا ممن ذهب إلى أن فتنة القول بخلق القرآن كانت حادثة سياسية لم يكن علمانيًا ولا متأثرًا بالعلمانية، وإنما ينطلق من مؤثرات معينة استوحى منها ما توصل إليه من نتيجة، وإن كان نتيجة خاطئة عندي لأنها تخالف معطيات أخرى أقوى منها في الدلالة وأوضح منها في بيان البعد الديني فيها. وما أشرت إليه من أن إنكار التفسير السياسي يسعى إلى احتكار القضايا العقدية في عامل واحد وهو العامل الديني، فهذا غير صحيح، فقد جاء في بحث التفسير السياسي أن نقد هذا النوع من التفسير لا يعني إبطال تأثير العوامل الأخرى غير الدينية، وإنما إنكار تفعيل خاطئ لبعضها، وهذا ليس إنكارًا مطلقًا للمؤثر السياسي، ولكنه إنكار لاستعمال خاطئ فيه. ونحن إذا أردنا أن نحدد العوامل المؤثرة في منظومات التراث المتعددة فإنا لا بد أن نفرق بين مستويين: الأول: المستوى الإجمالي، وفي هذه الحالة يغلب الجانب الديني على غيره من الجوانب، لأن الصبغة الأساسية في التراث هي الصبغة الدينية، فهو تراث ديني بالدرجة الأولى، وهذه حقيقة أكد فاعليتها كبار المحللين للفكر الإسلامي. وإذا كان الأمر كذلك فمن الوضوح المنهجي أن يكون البعد الديني هو المتفرد بالتأثير الأكبر في المنظومات المعرفية المكونة للتراث. الثاني: المستوى التفصيلي، الذي يتحدث عن فكرة معرفية معنية محاطة بظروف وملابسات خاصة، فتحديد العوامل المؤثرة في هذا المستوى راجع إلى الأدلة التفصيلية التي يقدمها الباحث، وتقديم عامل على آخر في التأثير يرجع إلى قوة الدليل المقدم وضعفه. التنوع الواسع لا شك أن تراثنا يزخر بالعديد من المعارف والمناهج المعرفية والتنوع الواسع لكن ألا ترى أن مراحل الانحطاط والجمود الفكري والمعرفي ساهمت في تجمد تلك المعارف وعدم تجددها مما أوجد حالة شك وارتباك عند بعض المفكرين فحاول تجاوزها؟ أنت تشير إلى ظاهرة فكرية باتت سمة بارزة في الخطاب العربي المعاصر، وهي ظاهرة التهالك على الإنتاج الفكري الغربي والإصابة بالاقتراض الشديد منه والانتهاء إلى الاستهلاك المعرفي. وهنا يثور تساؤل مشروع في ذهن كثير من الشباب العربي الواعي: ما سر ذلك التهاوي على المنتج الغربي وما الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الاستهلاك الفكري، مع أن تراثنا العربي غني بالمعارف والمناهج المعرفية المتنوعة؟ وإذا أردنا أن نستعمل الأسلوب التفكيكي لاستجلاء الأسباب الحقيقية التي كانت وراء هذه الظاهرة نجد أنها ترجع إلى مجموعة أسباب، الأول: الركود المعرفي الذي أصاب المنظومات التراثية، أدت به إلى الجمود وعرقلة التطور والتجديد والتخلف عن تلبية الحاجيات الفكرية المتنوعة، مما تسبب في انصراف عدد من العقول العربية إلى محاولة تجاوزه. السبب الثاني: حالة الانهزام النفسي، وعقدة (نقص الأنا وتفوق الآخر)، وهذا أدى إلى انبهار كثير من العقول العربية بالمنتج الفكري الغربي، بل تجاوز حالة الانبهار إلى اعتقاد كونية الفكر الغربي، وأنه فكر عابر للقارات، ومتجاوز للنقد. السبب الثالث: غياب المشروعات الاستكشافية للتراث، وقد تفطن لهذه الضرورة د. طه عبدالرحمن، فأقام مشروعه على إثبات أن التراث مشبع بالآليات الإنتاجية، وبذل جهدًا كبيرًا في استخراج الآليات المنتجة والمختلفة التي تكونت وتطورت بها مضامين النصوص التراثية. السبب الرابع: النفسية الاستعلائية على الحالة القديمة، وقد ترتب على ذلك اعتقاد فقر التراث والحكم عليه بالتصحر والجدب المنهجي. السبب الخامس: طبيعة النشأة؛ فالمتابع للمسيرة الفكرية التي عاش من خلالها بعض المفكرين العرب، فقد نشأوا في المحاضن التربوية التي تكرس الفكر الغربي بكل قوة. التفسير السياسي هل معنى كلامك ألا نقرأ الفلسفة والمناهج الغربية تمامًا وألا نأخذ منها مع أن علم أصول الفقه وهو من علوم التراث أثر فيه علم المنطق - المأخوذ من الفلسفة اليونانية- وساهم في، بلورته على أيدي الفقهاء؟ من الأصول المنهجية التي قام عليها بحث التفسير السياسي: مجاوزة الأوصاف التي لا تأثير لها في إثبات صحة الفكرة أو خطأها، والذهاب بذهنية القارئ نحو المحددات التي عليها الاعتماد الحقيقي في محاكمة الأفكار والمناهج. وقد ظهر في البحث جليًا بأن وصف الفكرة بأنها غربية أو يونانية فقط، ليس دليلًا كافيًا في إثبات صحتها أو خطئها. ونحن إذا أدرنا أن نصف المواقف العربية في التعامل مع المنتج الفكري الغربي نجد فيها موقفين متقابلين: موقف يجعل مجرد ولادة الفكرة في الأرضية الغربية ونمائها في الحقل الغربي دليلًا كافيًا على صحتها في نفسها وعلى نفعها للفكر العربي. وآخر يجعل ولادة الفكرة في الأرضية الغربية ونمائها فيها دليلًا كافيًا على بطلانها وعلى خلوها من كل منفعة، ولأجل هذا نرى من أصحاب هذه الرؤية من يقتصر في نقد الأفكار بكونها غربية فقط، ولا يقدم أي دليل آخر. ولكن العملية النقدية الصلبة تسلك طريقًا آخر في التعامل مع الأفكار، فهي لا تجعل لمكان ولادة الفكرة أو لجنسيتها مدخلًا في منزلة الدلالة الحقيقية في الحكم بالصواب والخطأ، فكون الفكرة غربية أو يونانية ليست دليلًا كافيًا في إثبات خطأ الفكرة، كما أن كون الفكرة عربية أو نشأت في الأرضية الإسلامية ليس دليلًا كافيًا في إثبات صحتها. وهذا لا يعني إغفال أي دور للأرضية التي نبتت فيها الأفكار، ولكن دورها منحصر في كونها مؤشر يثير التساؤلات فقط، ولا يرتقي لأن يكون دليلًا قائمًا بنفسه، ومن النماذج البارزة في هذه المنهجية العملية النقدية التي مارسها ابن تيمية للمنطق الأرسطي، فإنه تجاوز محاكمة المنطق إلى جنسيته وأرضيته وذهب نحو مكوناته الأساسية وأصوله الفلسفية وتناولها بالتحليل والنقد وبين ما فيها من خلل منهجي ومعرفي. وبهذا يتضح أن الإشكالية المنهجية التي وقع فيها بعض علماء أصول الفقه ليست في أصل استفادتهم من علوم اليونان وإنما في المنهجية الخاطئة التي اعتمدوا عليها في الاستفادة، فكثير منهم لم يكن يميز بين المواد المنطقية الصحيحة والنافعة وبين المواد الخاطئة أو المختلفة عن نسق العلوم الشرعية، حتى قال الغزالي: “كل من لم يحصل علومه عن طريق المنطق فلا ثقة بعلمه” مع أنه نفسه أقر بأن بعض قضايا المنطق الأرسطي مخالف لأصول الشريعة الإسلامية، وبعضها الآخر مختلف في طبيعته عن طبيعة العلوم الشرعية. مسألة خلق القرآن لو أخذنا مسألة القول بخلق القرآن كأنموذج.. هل من المعقول أن غالبية الفقهاء والمحدثين في تلك الفترة على جلالة قدرهم ومنزلتهم وحرصهم على حماية الدين تأولوا أو تسامحوا في أمر ديني عقدي؟ أم إن الأمر كانت له أبعاد أخرى سياسية أو غيرها أثرت في مواقفهم؟ وكيف تفسر انتشار المذهب الأشعري على يد نظام الملك في بغداد، والموحدين في المغرب، وانتشار بعض المذاهب والمدارس الإسلامية على يد بعض الحكومات في التاريخ الحديث؟ لا بد أن نشير إلى أن الخلاف في مسألة خلق القرآن كان قبل زمن المأمون وكانت المواقف فيها متحدة وصارمة إلى حد كبير، فكل من أهل الحديث والمعتزلة يرون أن المسألة أصل من أصول الدين من خالفه يحكم بكفره، وهذا يؤكد على تجذر البعد الديني في هذه القضية، ثم لما وقعت الفتنة اختلفت مواقف المحدثين والفقهاء في الموقف منها، فمنهم من أبى أن يظهر الموافقة وصبر على الإكراه والتعذيب حتى قتل بعضهم، ومنهم من أظهر الموافقة ولم يصبر على الإكراه، ولم يكن هؤلاء هم الأكثر، بل لم يبلغ عددهم الثلاثين نفسًا من عشرات العلماء الذين وقع عليهم التعذيب. ثم إن من يتتبع مجريات الفتنة ومشاهدها يدرك مقدار الاضطهاد الذي مارسه الولاة على أهل الحديث، فقد، بلغ من تمسك المأمون بهذه الفتنة أنه أوصى أخاه المعتصم بمواصلة المسيرة في امتحان الناس، وبلغ الإكراه على بعض أئمة الحديث حتى وصل إلى سفك دمه، وضرب بعضهم حتى غشي عليه، وتوسعت دائرة الامتحان حتى وصلت إلى امتحان الصبيان في الكتاتيب، فمع هذه المشاهد المرعبة لم يستطع عدد من العلماء أن يستمر على إظهار رأيه المخالف وأظهر الموافقة الظاهرة للحكام، مع استبطان الحق في باطنه دفعًا للحرج وأخذًا بالرخصة التي أباحها النص القرآني لهم، وقد أظهر عدد منهم الندم على موافقة الحاكم على قوله وعدم الارتياح لذلك، وقد قدمت في أصل البحث أدلة عديدة على إثبات كونها حادثة عقدية لا علاقة لها بالسياسة. وأما ما ذكرت من أن بعض المذاهب انتشرت بسبب تبني السياسي لها، فهذا أمر صحيح وواقع، وقد ذكرت في البحث ما يدل على ذلك من الحوادث التاريخية، ولكن لا بد أن نشير إلى أن هذا التأثير لا علاقة له بالتفسير السياسي الذي نتحدث عنه، لأن غاية ما فيه هو تأثير السياسة في انتشار الفكر، وليس تأثير السياسة في بناء الفكر من أصل منظومته أو ابتداء نشأة العقيدة في قلوب الناس.