المثاقفة، والابداعية منها على وجه التحديد مفهوم لا يدركه الكثير من المهتمين بالشأن الفكري والادبي، ليس لقصور فيهم ولكن لعدم شيوع هذا المفهوم رغم أهميته البالغة في يوم الناس هذا. فالعالم كله اليوم قرية كونية صغيرة، وقد تكون غدت ضئيلة للغاية في ظل التقانة الباهرة التي نعيشها، وسهولة ويسر الاتصال وسرعته الفائقة، وإمكانية الاطلاع على ما تنتجه العقول في الشرق أو الغرب في أي وقت نشاء بضغطة واحدة على مفتاح واحد، ولم يعد لاحد منا نحن المشتغلين بالأدب والفكر عذر في التقصير في المعرفة والإدراك لكل ما تفرزه أقلام الكُتّاب او تجود بن قرائح الشعراء في الشرق أو في الغرب. وعليه لا بد من ان يكون لنا نحن العرب والمسلمين دور رائد في هذه المثاقفة بحيث نؤثر كما نتأثر، وتصبح لإبداعاتنا على اختلاف أنماطها آثار واضحة على إبداعات الشرق والغرب، وآن لنا أن نكون منتجين للفكر والإبداع بكل أشكاله، كما كنا في عصور غابرة، وبعد أن أصبحنا مستهلكين ليس إلا - خلال قرون قليلة ماضية. والمثاقفة في عالم اليوم تقوم على الائتلاف أكثر من قيامها على الاختلاف في ظل التقارب الأممي الذي ذكرته، وعلينا أن نبحث عن نقاط الائتلاف وأن ننميها، وأن نحد من الاختلاف ونحصره، فالاختلاف يقع فقط في منطقة الثوابت والمعتقدات، والأخلاقيات والأعراف الاجتماعية. على تلك الفلسفة، انعقد الملتقى الثقافي الثالث لنادي مكة الثقافي الأدبي في الفترة من 1 إلى 2/11/1431ه، تحت عنوان لافت: (المثاقفة الإبداعية ائتلاف لا اختلاف)، تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكةالمكرمة، الأمير المثقف ذي المواهب الابداعية المتعددة، وبمشاركة باحثين وباحثات جاؤوا إلى مكةالمكرمة من مختلف مناطق المملكة ومن سائر مؤسساتها الفكرية والأكاديمية، انعقد الملتقى في مكةالمكرمة وبجوار الكعبة المشرفة على الأرض التي تعتبر أول وأعظم مهدٍ لائتلاف الثقافات ونبذ اختلافها قبل الإسلام وبعده، وكانت وما تزال مهوى أفئدة الناس على اختلاف ثقافاتهم وأفكارهم وأعراقهم وألوانهم. وكما تُنظَّم المؤتمرات العالمية الكبرى، نُظِّم هذا المؤتمر، وحقق نجاحاً غير مسبوق، وتابعته الصحف ووسائل الإعلام لحظة بلحظة منذ افتتاحه وحتى جلسته الختامية وفي مقدمتها بالطبع هذه الصحيفة الغراء، صحيفة المدينة التي أصبحت راعياً إعلامياً لكثير من فعالياتنا الثقافية الوطنية، وقد كانت محاور الملتقى محددة وشاملة ودقيقة وموجزة، فمحوره الأول: ”مفهوم المثاقفة”، والثاني: “مسالك المثاقفة، ومحوره الثالث: ”من صور المثاقفة الإبداعية في التراث” والرابع: ”المثاقفة الحديثة والمعاصرة”، وطرح المحور الخامس والأخير سؤالاً جامعاً: ”الأدب العربي إلى أين”؟!.. وتحت كل محور عدة نقاط فرعية تبين اتجاهاته وسماته. وقد جاءت بحوث الملتقى موائمة تماماً لهذه المحاور مغطية لها، وقدمت في جلسات علمية رصينة بعد أن قُبلت بعد تحكيمها تحكيماً علمياً صارماً. ومن عنوانات هذه البحوث: بعض الطروحات اللسانية لتيار الحداثة والرد عليها - المثاقفة والصراع مع الآخر - المثاقفة العربية وتأثيرها الحضاري في أوروبا - المثاقفة الفكرية الأدبية بين الأدب العربي والأدب الأوروبي - تلقِّي نظرية النقد الثقافي في الفكر العربي - ترجمة الإبداع وحمولتها الثقافية - الفكر والشخصية في رواية 11 سبتمبر الأمريكية - مسالك المثاقفة - دور الترجمة في تحقيق المثاقفة المتوازنة - الأدب العربي إلى أين؟! وسواها. وعلى الرغم من أن المشاركين حضروا من مؤسسات مختلفة من المملكة كما ذكرت، إلا أن بعضهم كان من جنسيات عربية مختلفة ومثلوا نخباً ثقافية رفيعة أثرت جلسات الملتقى وأضافت إليه الشيء الكثير. وهذا الملتقى العالمي بكل ما تعنيه الكلمة: تنظيماً وطرحاً وموضوعاً ونتائج، لم يقتصر على انعقاد الجلسات العلمية الدقيقة فحسب، بل حقق سبقاً إنسانياً رائعاً يستحق الإشادة بتكريم رائدين كبيرين من روّاد الثقافة العربية المعاصرة، وكان لكل منهما دوره الفاعل في المثاقفة الإيجابية، وكل منهما ذو صيت زائع في المملكة والعالم العربي والعالم كله. وهما الأستاذ الدكتور حسن بن محمد باجودة رائد التفسير البياني للقرآن الكريم في المملكة وأستاذ الأساتيذ في جامعة أم القرى وجامعات عالمية أخرى في أستراليا وغيرها من الدول، وصاحب المؤلفات والبحوث التي تجاوزت مائة وخمسين عملاً، والرائد الآخر هو الأستاذ عابد خزندار شافاه الله وعافاه الله الذي له إسهامات كبيرة في الكتابة والترجمة والنقد. لقد أجاب هذا الملتقى الرائع على كثير من الأسئلة الملحة حول المثاقفة ورسم الخطوط العريضة لكيفية جعلها ائتلافاً لا اختلافاً. وهو إنجاز كبير يضاف إلى إنجازات نادي مكة الثقافي الأدبي التي جعلت هذا النادي في الصدارة عن استحقاق وجدارة.