تحجز “الخطابة” في ذاكرة التاريخ موقعًا متقدمًا يبلغ حد الصدارة في حياة الشعوب والأمم، ولهذا كان للخطيب المفوّه موقعه المقدّر، ومكانته التي لا يزاحم عليها، فهو -بمنطوق الزمن الحالي- يمثّل وزارة للإعلام، فعبر موهبته الكبيرة ينافح عن بني جلده، ويثير الحماس، ويسرّب الحكمة، ويُهدئ الثائرة، وغير ذلك من الأغراض التي تُنصب لها المنابر، وتتنادى لها الآذان استماعًا.. وكلما حقق الخطيب الشرط اللازم من الإبانة والجزالة ونصاعة الديباجة، وحسن الإلقاء، وغير ذلك من شروط كل مجتمع، كان إلى القلوب أقرب، وفي ذاكرة الاستدعاء أسرع من غيره في مقام الاستشهاد، خاصة إذا طعّم قوله وخطبه برصائع الحكمة ولطائف القول، عند ذلك سيمتطئ قوله مركب الخلود عابرًا لك الأزمان، تستدعيه كل الأجيال في مقام الحفاوة والتقدير.. ولهذا فما إن تذكر الخطابة إلا ويبرز اسم الخطيب العربي المفوّه قس بن ساعدة الإيادي، فشهرته تتعدى حجب الأزمان، وتتعصى على طوامر النسيان، وران الغفلة والإهمال، ليبقى شاهدًا على ما يمكن أن تحدثه الكلمة من أثر عزيز على البلى.. ولئن كان من حظ “سوق عكاظ” أن يعيد ذاكرة التاريخ اليوم مستدعيًا ما سلف من مجد، حري بأن يكون حاضرًا في ذاكرة الأيام التي تضمر فيما تضمر طوفان المحو والطمس بقانون “العولمة” لكل أمة لا تمسك جيدًا بأواصر حضارتها، وتسمح باختراق ثقافتها، ليبقى أمر استعادة “سوق عكاظ” في الزمن الحاضر واجبًا، محمولًا أيضًا بواجب استعادة رموزه القدامى، ومن بينهم هذا الخطيب المفوّه.. فلا شك أن قس بن ساعدة الإيادي هو خطيب عربي من أكبر حكماء العرب قبل الإسلام، حيث ينسب مقولة للرسول صلى الله عليه وسلم عن قس: “يرحم الله قسًّا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة وحده”. وتضاربت الأقوال في سيرة قس عند المهتمين بالتاريخ والأخبار، فبعض أهل أهل الأخبار يقولون إن قسًّا كان قارئًا كاتبًا مطلعًا على كتب أهل الكتاب، ولكنه لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، بل كان حنيفًا يدين بالتوحيد. وقالوا إنّه كان متصلًا بقيصر الروم، حيث وفد إليه فأكرمه وعظمه وأنه توفى قبيل البعثة سنة 600 م لكن غير معروف في أي سنة ولد. وقس بن ساعدة الإيادي هو أول من خطب على العصا والراحلة، وهو أول من أظهر التوحيد بمكة وما حولها، مع ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، وهو من بني إياد أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم، في الجاهلية. وكان أسقف نجران، وأول من قال في كلامه “أما بعد”. وكان يعرف النبي صلى الله عليه وسلم وينتظر ظهوره ويقول: “إن لله دينًا خير من الدين الذي أنتم عليه”. وجاء ذكر قس بن ساعدة في كتاب البداية والنهاية لابن كثير في عدة روايات، يذكر في إحداها أنه لما جاء وفد إياد إلى النبي صلى الله عليه وسلم سر بقدومهم وسألهم عن قس بن ساعدة، فقالوا هلك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مهما نسيت فلن أنساه بسوق عكاظ واقفًا على جمل أحمر يخطب الناس، وهو يقول...”، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم خطبته المعروفة وقال: “يرحم الله قسًّا، أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة وحده (أو أمة واحدة)”. ونسبوا إلى قس بن ساعدة قوله: “كلا بل هو إله واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وإليه المآب غدا”. وقوله: “كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود”. وهذا مطابق لسورة الإخلاص معنا وليس لفظًا وبلاغة. وجاء في كتاب «النصوص الأدبية» ذكر قس بن ساعدة. يقول المؤلفون: «وقد نزل القرآن مصدقًا لقوله، مقرًّا طريقة قس في الاستدلال بعجائب المخلوقات على وجود الخالق». ورووا له هذه الخطبة: « أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا سمعتم شيئًا فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا. ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا؟ تبا لأرباب الغفلة والأمم الخالية والقرون الماضية. يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد؟ وأين المريض والعوّاد؟ وأين الفراعنة الشداد؟ أين من بنى وشيد، وزخرف ونجد؟ أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى؟ ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأطول منكم آجالا؟ طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم الدهر بطوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية. كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود». وذكروا له الأبيات المعروفة: «في الذاهبين الأولين». وينسب الرواة إلى قس بن ساعدة حكما كثيرة منها: «إذا خاصمت فاعدل، وإذا قلت فاصدق، ولا تستودعن سرك أحدًا، فإنك إن فعلت لم تزل وجلا، وكان بالخيار، إن جنى عليك كنت أهلا لذلك، وإن وفى لك كان الممدوح دونك. وكن عف العيلة مشترك الغنى تسد قومك». وأيضا: «من عيرك شيئا ففيه مثله، ومن ظلمك وجد من يظلمه، وإذا نهيت عن الشيء فابدأ بنفسك. ولا تشاور مشغولا وإن كان حازما، ولا جائعا وإن كان فهما، ولا مذعورا وإن كان ناصحا». وذكر الدكتور جواد علي قسا بن ساعدة مرارًا في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام». وقال: «ولدى الرواة أبيات ينسبونها إلى بعض الشعراء الجاهليين، هم الأعشى، والحطيئة، ولبيد، ذكر فيها اسم قس، وقد أشيد فيها بفصاحته وبلاغته وحكمته، حتى جعل لبيد لقمان دون قس في الحكم». وجاء ذكر قس بن ساعدة في كتاب البداية والنهاية لابن كثير في عدة روايات. من شعره: يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن قس هل ترك وصية؟ قيل: وجدوا عند رأسه صحيفة فيها من إنشاء قس بن ساعدة: يا ناعي الموت والملحود في جدث عليهم من بقايا قولهم خرق دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا حتى يعودوا بحال غير حالهم خلقًا جديدًا كما من قبله خلقوا منهم عراة ومنهم في ثيابهم منها الجديد ومنها المنهج الخَلِق وعن حقيقة الموت، يقول: في الذاهبين الأولين في الشعوب لنا بصائر لما رأيت موارد للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها تسعي الأصاغر والأكابر لا يرجعن قومي إليَّ ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر وكان ينادي الناس ناصحًا: لا تعبدون إلهًا غير خالقكم فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد سبحان ذي العرش سبحانا نعوذ به وقبل قد سبح الجودي والجمد مسخر كل ما تحت السماء له لا ينبغي أن يناوي ملك أحد لا شيء مما نري تبقي بشاشته يبقى الإله ويودي المال والولد وهو الذي قال في زيد بن عمرو بن نفيل رفيقه على درب الحنيفية بعد موته: رشدت وأنعمت بن عمرو وإنما تجنبت تنورًا من النار حاميا بدينك ربًّا ليس رب كمثله وتركك أوثان الطواغي كما هيا وإدراكك الدين الذي قد طلبته ولم تك عن توحيد ربك ساهيا فأصبحت في دار كريم مقامها تعلل فيها بالكرامة لاهيا تلاقي خليل الله فيها ولم تكن من الناس جبارًا إلى النار هاويا وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ولو كان تحت الأرض سبعين واديا