من الأمور التي أثارت جدلًا واسعًا بين الشيعة وخصومهم اتهام الشيعة بأنهم يطعنون في عرض رسول الله صلى الله عليه وآله، ويتَّهمون خصوصًا عائشة بالزنا والفجور. وهذا الطعن جعله خصوم الشيعة من أعظم الطعون في الشيعة وفي مذهبهم، ويظهر أنه اتهام قديم، لم يكن وليد هذا العصر. ولأجل ذلك فإن من المهم جدّا إيضاح هذه المسألة، وبيان عقيدة الشيعة في زوجات نبينا صلى الله عليه وآله من هذه الجهة، فأقول: إن كلمات علماء الشيعة قديمًا وحديثًا صرَّحت بأن جميع نساء الأنبياء عليهم السلام منزَّهات عن ارتكاب الزنا والفجور؛ ولم يدل دليل واحد على أن زوجة واحدة من زوجات الأنبياء عليهم السلام زنت، أو أقدمت على فاحشة، ونساء الأنبياء عليهم السلام وإن لم يكنَّ معصومات عن الزنا والفواحش، إلا أن الله تعالى صان كل نبي من أنبيائه عليهم السلام عن أن يقترن بعاهرة أو بزانية، كما أنه تعالى صان كل امرأة اقترنت بنبي عن أن تزني أو تفعل فاحشة؛ والسبب في ذلك أن زنا الزوجة يشين زوجها، ويعيبه، ويحط من قدره، والله تعالى نزَّه أنبياءه عن كل ما يعيبهم، وصانهم عن كل ما يقلل من مكانتهم عند الناس، ومنه زنا زوجاتهم وفعلهن الفواحش. وهذا بخلاف ارتكاب الذنوب الموجبة للفسق، فإن الله تعالى لم يعصم نساء أنبيائه عن ذلك، وإلا لوجب القول بعصمتهن عن الذنوب والمعاصي، وهذا لم يقل به أحد؛ لأنه قد ثبت متواترًا أن بعض زوجات الأنبياء صدرت منهن بعض الذنوب والمعاصي. وحال الكفر بالنسبة إليهن كحال الفسق، فإنه جائز أيضًا على نساء الأنبياء عليهم السلام؛ لأن الله تعالى ذكر في كتابه العزيز مثالين لمن كفر من زوجات الأنبياء السابقين عليهم السلام، وهما زوجتا نوح ولوط عليهما السلام، فقال سبحانه: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [التحريم:10]. ومن الواضح أن فسق الزوجات أو كفرهن لا يعيب أزواجهن ولا ينقصهم، بخلاف زناهن وفحشهن، ولهذا صانهن الله تعالى عن الزنا، ولم يصنهن عن الفسق والكفر. وهذا الذي قلناه من براءة نساء الأنبياء عن الزنا والفجور صرَّح به أعلام الشيعة قديمًا وحديثًا في كتبهم وفتاواهم، وإليك بعض منها: 1- قال السيد علي بن الحسين العلوي المعروف بالشريف المرتضى قدس سره (ت 436ه) في أماليه 1/503، في ردِّه على من زعم أن ابن نوح لم يكن ابنًا له في الحقيقة، وإنما وُلد على فراشه: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن يُنزَّهوا عن مثل هذه الحال، لأنها تَعُرُّ وتَشِين وتَغُضُّ من القدر، وقد جنَّب الله تعالى أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ما هو دون ذلك تعظيمًا لهم وتوقيرًا ونفيًا لكل ما ينفِّر عن القبول منهم. 2- قال شيخ الطائفة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (ت 460ه) في تفسير التبيان 10/52 في تفسير قوله تعالى: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا): قال ابن عباس: (كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس: إنه مجنون. وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما لهما، وما زنت امرأة نبي قط)؛ لما في ذلك من التنفير عن الرسول وإلحاق الوصمة به، فمن نسب أحدًا من زوجات النبي إلى الزنا فقد أخطأ خطأً عظيمًا، وليس ذلك قولًا لمحصِّل. 3- وقال الشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548ه): (فخانتاهما) بالنفاق والتظاهر على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه، وعن الضحاك: خانتاهما بالنميمة، إذا أوحى الله إليهما أفشتاه إلى المشركين، ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور؛ لأنه نقيصة عند كل أحد، سمج في كل طبيعة، بخلاف الكفر؛ لأن الكفار لا يستسمجونه، وعن ابن عباس: ما زنت امرأة نبي قط؛ لما في ذلك من التنفير عن الرسول، وإلحاق الوصمة به. (جوامع الجامع 3/597). 4- وقال محمد علي بن يونس العاملي البياضي (ت 877ه): وأما تولد كافر من النبي فلا محال فيه، وقد قيل: إن كنعان كان لنوح ربيبًا، ولم يكن ابنًا. وروي عن الحسن ومجاهد أنه وُلد على فراشه، وهذا بالإعراض عنه حقيق، قال ابن عباس: ما زنت امرأة نبي قط. (الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/354). 5- وقال المقدس أحمد الأردبيلي (ت 993ه): ثم أشار إلى التمثيل بامرأة نوح وامرأة لوط، بأنه لا ينفع أحدًا صلاح أحد حتى حفصة وعائشة وغيرهما صلاح النبي صلى الله عليه وآله كما في امرأتي هذين النبيين العظيمين، فإن امرأتيهما خانتاهما. قال في الكشاف والقاضي: بالنفاق، وقيل: بأن كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس: إنه مجنون، وإذا آمن به أحد أخبرت به الجبابرة من قوم نوح، وكانت امرأة لوط تدل على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما، فما بغت امرأة نبي، فكذا نبينا بالطريق الأولى، ولهذا قالوا: قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية رجاء أن ينفعه صلاح غيره. (زبدة البيان: 574). 6- وقال المولى محمد صالح المازندراني (ت 1081ه): فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط دلت قومه على ضيفانه، وليس المراد بالخيانة البغي والزنا، إذ ما زنت امرأة نبي قط. (شرح أصول الكافي 10/107). 7- وقال فخر الدين الطريحي (ت 1085): قوله: (فخانتاهما) أي بالنفاق، والتظاهر على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه لمجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه. وقيل: خانتاهما بالنميمة، إذا أوحي إليهما أفشتاه إلى المشركين. ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور، قال ابن عباس: ما زنت امرأة نبي قط، لما في ذلك من التنفير عن الرسول صلى الله عليه، وإلحاق الوصمة به. (مجمع البحرين 1/715). 8- وقال محمد إسماعيل بن الحسين المازندراني الخاجوئي (ت 1173ه): فإن قلت: هل تجب عصمة نساء الأنبياء من الزنا، فلا يجوز ذلك عليهن، أم يجوز، ولكنه لم يقع منهن؟ قلت: لو لم يجز لكان على رسول الله صلى الله عليه وآله حين قذفت زوجته أن يخبر بأنه لا يجوز عليها، ولكنه بقي أيامًا والناس يخوضون فيه إلى أن نزل الوحي ببراءتها، وكيف لا يجوز وقد قال الله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة) إلى قوله: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا وقرن في بيوتكن) ولذلك لم يشترط أحد من العلماء عصمتهن عنه، ولكن اللائق بمنصب النبوة نزاهتهن عنه وسلامتهن منه، ولم يقع من واحدة منهن، فعن ابن عباس: ما زنت امرأة نبي قط. (جامع الشتات: 38). 9- وقال السيد محسن الأمين (ت 1371ه): الشيعة تعلن لجميع الملأ أنها تعتقد أنه لا يجوز أن تكون زوجة النبي زانية، وأنه يجب تنزيه جميع أزواج الأنبياء عن ذلك، فلا يقبل منهم، وتلصق هذه التهمة بهم؟ إن هذا لعجيب. وقال أيضًا: فيمكنني في هذه العجالة أن أبين لكم خلاصة عقيدة الشيعة المتفق عليها في نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة، وفي أمهات المؤمنين نساء النبي صلى الله عليه وآله خاصة... إلى أن قال: فتحصل من ذلك أن زوجة النبي يجوز أن تكون كافرة، كما في امرأتي نوح ولوط عليهما السلام، ولا يجوز أن تكون زانية؛ لأن ذلك من النقائص التي تلحق النبي، فتوجب سقوط محله من القلوب، وعدم الانقياد لأقواله وأفعاله، وذلك ينافي الغرض المقصود من إرساله، وحينئذ فقوله تعالى في حق امرأتي نوح ولوط: (فخانتاهما) يراد منه الخيانة بغير ذلك، ولا عموم في لفظ الخيانة. (أعيان الشيعة 1/120). 10- قال العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402ه) في الرد أيضًا: وفيه: أنه على ما فيه من نسبة العار والشين إلى ساحة الأنبياء عليهم السلام، والذوق المكتسب من كلامه تعالى يدفع ذلك عن ساحتهم، وينزِّه جانبهم عن أمثال هذه الأباطيل، أنه ليس مما يدل عليه اللفظ بصراحة، ولا ظهور، فليس في القصة إلا قوله: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)، وليس بظاهر فيما تجرَّؤوا عليه، وقوله في امرأة نوح: (امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)، التحريم: 10، وليس إلا ظاهرًا في أنهما كانتا كافرتين، تواليان أعداء زوجيهما، وتسران إليهم بأسرارهما، وتستنجدانهم عليهما. (الميزان في تفسير القرآن 10/235). وقال أيضًا: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه، فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا والفحشاء، وإلا لغت الدعوة، وتثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعًا لا ظاهرًا فحسب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بهذه الحجة منا، فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك؟ (الميزان في تفسير القرآن 15/102). 11- وقال المرجع الديني السيد محمد صادق الروحاني في رده على سؤال نصّه: هل زوجات النبي صلى الله عليه وآله معصومات عن الزنا؟ قال ما يلي: لم يكنَّ في أنفسهن معصومات عن ذلك، ولكن كرامة النبي صلى الله عليه وآله تقتضيه، فإنه أجل عند الله تعالى من أن تقترن به امرأة لا تتورع عن ارتكاب الفواحش. (أجوبة المسائل: 92). وأود أن أنبه القارئ العزيز إلى أن بعض علماء الشيعة السابقين، ألف كتابًا في تنزيه عائشة، وهو “الشيخ الواعظ نصير الدين عبدالجليل بن أبي الحسين بن أبي الفضل القزويني: [وهو] عالم، فصيح، ديِّن، له... كتاب البراهين في إمامة أمير المؤمنين، كتاب السؤالات والجوابات سبعة مجلدات، كتاب مفتاح التذكير، كتاب تنزيه عائشة”. (فهرس منتجب الدين: 87). قال البحاثة آغا بزرك الطهراني: (2039: تنزيه عائشة) للشيخ الواعظ نصير الدين عبدالجليل بن أبي الحسين بن أبي الفضل القزويني صاحب بعض المثالب المذكور في ج 3- ص 130)، نزَّه فيه عائشة عما اتهمت به، ذكره الشيخ منتجب الدين. (الذريعة 4/457). وقد أعجبني إنصاف الألوسي في تفسير قوله تعالى (فخانتاهما)، حيث قال: نقل ابن عطية عن بعضٍ تفسيرَها بالكفر، والزنا، وغيره، ولعمري لا يكاد يقول بذلك إلا ابن زنا، فالحق عندي أن عهر الزوجات كعهر الأمهات من المنفرات التي قال السعد: (إن الحق منعها في حق الأنبياء عليهم السلام)، وما ينسب للشيعة مما يخالف ذلك في حق سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم كذب عليهم، فلا تعول عليه وإن كان شائعًا، وفي هذا على ما قيل تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر والعصيان، مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة. (روح المعاني 28/162). فإذا تبين رأي الشيعة الإمامية في تنزيه زوجات نبينا صلى الله عليه وآله عن الفواحش والفجور، فإن كل من ينسب إلى الشيعة الإمامية خلاف ما قلناه فهو إما جاهل بمذهبهم، أو كاذب مفتر عليهم. كما أن كل من قال خلاف ما أوضحناه من الشيعة الإمامية فهو مخطئ جزمًا، وهو يعبِّر بقوله عن رأيه هو، لا عن رأي عموم الطائفة، وقوله مردود عليه، لا يصح نسبته إلى مذهب الشيعة الإمامية، ولم أجد فاضلًا من الشيعة قال: إن زوجة من زوجات نبينا صلى الله عليه وآله زنت أو ارتكبت فاحشة كما نقلناه عن شيخ الطائفة الشيخ الطوسي أنه قال: وليس ذلك قولًا لمحصِّل. وقد صدر في هذه الأيام كتاب زعم فيه مؤلفه أن عائشة خانت النبي صلى الله عليه وآله في عقيدته وفي فراشه، إلا أني لما قرأته وجدته ركيكًا جدًا في عباراته ومعانيه، ورغم أن كاتبه حاول أن يثبت أن عائشة خانت النبي (ص) في فراشه، إلا أني لم أجد في كل كلامه دليلًا واحدًا صحيحًا يدل على مزاعمه. والعجيب أن الكاتب جعل الإمكان دليلًا، وخلط بين أمور كثيرة مختلفة، وحمَّل النصوص ما لا تحتمل، ويظهر أنه كتبه بنتائج مسبقة، مع أنه لا ثمرة مهمة في أمثال هذه البحوث إلا إثارة الفتنة وتوسيع شقة الخلاف بين الشيعة وأهل السنة. •القاضي بهيئة التدقيق لدائرة الأوقاف والمواريث بالقطيف