عقب جولة مباحثات في إطار اللقاءات الثنائية لمجلس التعاون الفرنسي - الروسي، الذي انعقد بباريس أوائل هذا الشهر (سبتمبر)، دعا وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في مؤتمر صحفي عقده ووزير الخارجية الفرنسي كوشنير، إلى توسيع دائرة الحوار مع طهران عن طريق إشراكها في إدارة أزمات المنطقة والبحث عن حلول لها، وقال: «لا يجب حصر ايران في الملف النووي وحده»، بل يتعين أن «تستخدم إمكاناتها للمساعدة على ايجاد حلول في أفغانستان والعراق والشرق الأوسط».. وقبل ذلك، ويوم 29 يوليو أقيم حفل في بكين لإطلاق برنامج تلفزيوني وثائقي صيني مكون من اثنتى عشرة حلقة، يجري بثها على التلفزيون الرسمي تحت مسمى «إسرائيل.. أرض الحليب والعسل».. وهو أول مسلسل وثائقي ينتجه التلفزيون الرسمي الصيني عن «الحضارة اليهودية ودولة إسرائيل». الحدثان منفصلان إلاّ أن مغزاهما واحد، وهو أن روسيا والصين أصبحتا لا تقيمان وزنًا كبيرًا للعرب.. فوزير خارجية الأولى يطالب بتحقيق أحلام طهران في أن يكون لها دور أكبر في (إدارة) شؤون المنطقة، أي التدخل فيها، بينما تتطور العلاقات الصينية الإسرائيلية بشكل يدفع التلفزيون الرسمي الصيني للترويج (للحضارة اليهودية)، والإنجازات الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية، وبمعنى آخر فإن قيمة العرب على المستوى الدولي تتضاءل بشكل مخيف، ويسارع الإيرانيون بمطالبة المجتمع الدولي بقبولهم أوصياء على هؤلاء العرب، ويشير تصريح وزير الخارجية الروسي في باريس إلى أن موسكو أخذت تميل إلى قبول هذا الأمر، ويتنافس معهم على ذلك الإسرائيليون الذين يروّجون لتفوقهم الحضاري على حساب أبناء المنطقة، وخاصة العرب منهم. المنطقة العربية تشهد تفاعلات خطيرة تهدد بتفكيك نظام الدولة العربية كما نعرفه.. في العراق فقدت الحكومة المركزية قوتها، والبلاد ممزقة فعليًّا، وتحكمها مليشيات وأحزاب سياسية متفرقة ومتنازعة.. والسودان يعاني من مرض أصيب به منذ استقلاله، وعجز عن دعم مناعته الذاتية تجاه الأجانب من جيران وغيرهم، الذين استهدفوا وحدته وهو يداري أموره، فيما يتعلق بالجنوب، بالاستفتاء الموعود، وتنتظر الفصائل المسلحة والممولة من الخارج في دارفور دورها في سلب جزء آخر من البلاد أيضًا.. والصومال ممزق فعليًّا إلى أكثر من كيان وأبرزها (أرض الصومال) التي أعلنت استقلالاً كاملاً، و(أرض البونت) التي تقول إنها مستقلة استقلالاً ذاتيًّا ضمن الصومال الكبير.. إلاّ أن الوضع الحالي للبلاد ينذر باحتمالات تمزق أكثر من ذلك.. وكل هذه ليست سوى أمثلة لا قائمة بالمرض الذي يعاني منه الوطن العربي. هناك عجز فاضح في إدارة شؤون الدولة في أكثر من بلد عربي، ممّا يؤدّي إلى انتشار الفوضى والبطالة والظلم، وتفشي الفساد والفقر، وبالتالي تتوفر تربة خصبة للتخريب والتمزيق من الداخل، في الوقت الذي يبدو واضحًا للعيان أن هناك نوايا من جهات أجنبية متعددة لتفكيك النظام العربي القائم، والسعي إلى تحويل العالم العربي إلى مجرد دويلات صغيرة فوضوية يمكن معها التحكم بمصائرها، خاصة من دولة صغيرة مثل إسرائيل. ومثل هذا التصوّر عبّر عنه علانية صقور المتطرفين الأمريكيين من أمثال ريتشارد بيرل في أوائل عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش (الابن)، والذي طالب ببث الفوضى الخلّاقة (حسب وصفه) في المنطقة العربية ليظهر عبرها نظام جديد أفضل من النظام الحالي الذي لم يعجبه ورفاقه.. ولا زال هؤلاء المتطرفون في بعض مواقع صناعة القرار بأمريكا، بينما لازالت إسرائيل، والتي ستخدمها الفوضى الخلّاقة المقترحة، هي إسرائيل. وهذا يقودنا إلى التساؤل فيما إذا كانت هناك فرصة ما لنجاح المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية الحالية، خاصة وأن إدارة أوباما تقف بقوة وراءها، فلا نجد جوابًا لمثل هذا التساؤل، فالنوايا الإسرائيلية واضحة، وهي السعى إلى إبقاء الوضع كما هو عليه، وتأجيل النظر في الحل. أمّا إذا تصاعدت الضغوط عليها، فإنها لن تسمح بقيام دولة فلسطينية قوية، بل ستحيط بها من كل جانب، وستتركها معتمدة اقتصاديًّا على الاقتصاد الإسرائيلي، ومجردة من السلاح، وغير قادرة على حماية نفسها، أو المحافظة على أمنها الداخلي بدون الاستعانة بالإسرائيليين.. وإذا ما كانت إسرائيل تضع قضية أمنها في المرتبة الأولى من أي حل، فإنها لن تقبل بمكاسب السلام المتمثلة بقبول الدول العربية لها، لأنها تشعر بأن أحجام الدول العربية أكبر من حجمها، ممّا يجعلها دائمة القلق على مستقبلها، وبالتالي فإن الحل الأفضل من وجهة نظرها هو تقطيع الدول العربية إلى قطع أصغر من الحجم الإسرائيلي، سكانيًّا وجغرافيًّا، لضمان حد ما من عدم التفوق العربي مستقبلاً عليها.. ومثل هذا التفكير لا يجعل الإسرائيليين في وارد حل القضية الفلسطينية في الوقت الحاضر. وهنا يأتي السؤال الآخر، وهو فيما إذا فشلت المفاوضات فهل ستجد الدول العربية الموقعة معاهدات سلام مع إسرائيل نفسها في وضع يسمح لها بالتنصل من هذه الاتفاقيات، والتوجه نحو الإعداد للخروج من الوضع السلمي الحالي؟ وهل سيؤدّي هذا الأمر إلى وقف عجلة «الفوضى الخلّاقة» التي تعيشها المنطقة، خاصة وإذا أخذنا في الاعتبار أن من وقع على اتفاقية سلام مع إسرائيل هو الآخر مهدد بالتقسيم والفوضى التي يستهدفها الراعون للتفوق الإسرائيلي في المنطقة. حل القضية الفلسطينية، وحماية النظام العربي من مخططات التقسيم، وإيقاف مسيرة «الفوضى الخلّاقة».. بحاجة إلى أمرين أولهما تغيير الوضع على الأرض، بحيث يشعر الإسرائيليون، ومَن وراءهم، بأن العرب يشكّلون اليوم تهديدًا للأمن الإسرائيلي، وأن هناك تفوّقًا عربيًّا يهدد هذا الأمن.. حينها يمكن أن نتوقع إقدام إسرائيل على تقديم التنازلات المطلوبة لإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة.. وإلى جانب ذلك فإن حماية النظام العربي القائم من المؤامرات عليه يتطلب دعم الجبهة الداخلية لكل دولة عربية، وتعميق مفهوم المواطنة في هذه الدول بحيث يشعر الفرد بأنه جزء من تركيبة وطن عليه أن يحافظ على تماسكه، والدفاع عنه؛ لأن في تمزيقه خسارة شخصية له أيضًا.. وكلا الأمرين أو الخطوتين يتطلب وعيًا وجسارة من الأنظمة العربية، وبدونهما فإن العرب سيواصلون الجلوس في مقعد المتلقي والاستسلام للقدر الذي يفرضه الأقوياء، فكرًا وإرادةً، إقليميًّا ودوليًّا عليهم. ص. ب 2048 جدة 21451 [email protected]