لقد جاء قرار خادم الحرمين الشريفين (وفقه الله تعالى) في وقته؛ حفظًا للدين من تطاول الجهلة وأنصاف المثقفين عليه. ولا شك أن هذا القرار ستتبعه قرارات أخرى تعززه وتجعله واضحًا في الواقع العملي، وهذا القرار وما ستتبعه من قرارات عملية ستقوي من أداء هيئة كبار العلماء، بما سيجعلها أقدر على القيام بالأعباء الجليلة لهذا القرار الكبير. وسوف تظهر آثار هذا القرار في الأيام المقبلة، والتي لا يمكن أن تخالف سياسة خادم الحرمين الشريفين التي قامت على الحوار والانفتاح، والتي لا تواجه الفكر إلا بالفكر. فسياسة الانفتاح والحوار وعدم مواجهة الفكر إلا بالفكر، وهي السياسة الحكيمة التي ثبّتها خادم الحرمين الشريفين، حتى أصبحت عنوانًا نفاخر به في العالم كله، لا يمكن أن ينقضها فهمٌ خاطئ لقراره الحكيم. فلا بد أن نجمع بين قراره وسياسته الثابتة، ولا يصح أن نعارض بينهما. وكما يجب أن نجمع بين قرار الملك (حفظه الله) وبين سياسته الثابتة، كذلك يجب أن نجمع بينه وبين أحكام الإسلام المجمع عليها؛ لأن قراره (وفقه الله) قرارٌ إسلامي، جاء لخدمة الإسلام، فلا يمكن أن يُفهم بما يعارض هذا الأساس الثابت. ومن أحكام الإسلام المجمع عليها: أن الاختلاف المعتبر لا يجوز إنكاره، ولا إلزام الناس بقول من أقواله. وفي ذلك يقول الإمام النووي: “الاختلافُ في استنباطِ فروعِ الدِّينِ منه، ومناظرةُ أهلِ العلم في ذلك، على سبيل الفائدة وإظهارِ الحق، واختلافُهم في ذلك، ليس منهيًّا عنه، بل هو مأمورٌ به، وفضيلةٌ ظاهرةٌ. وقد أجمع المسلمون على هذا، من عهد الصحابة إلى الآن”. ويقول أحد علماء المالكية في ذلك، وهو الإمام أبو سعيد فرج بن قاسم الشهير بابن لُبّ الغرناطي (ت782ه)، وذكر خلافًا في مسألة من المسائل الفقهية: “وهب أن ثَمَّ قولا بالمنع أو الشدة، فإذا أخذ الناس بقول مخالف لقول آخر: فلم يختلف العلماء أنهم لا يجرحون بذلك، ولا يُفسقون. ولو كان هذا يعني: “لو كان العلماء يجرحون ويفسقون من أخذ بقول من الاختلاف المعتبر” لكان اختلافُ العلماء من أعظم المصائب في أهل الإسلام: فسادًا وشتاتًا وطعنًا، يكفّر بعضُهم بعضًا، ويلعن بعضُهم بعضًا، وكان يؤدّي إلى تفريق الكلمة، وإطفاء نور السنة والجماعة؛ لا سيّما والخلاف أكثر من الوفاق. يقول تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. وقد علم سبحانه أنهم يختلفون... (ثم قال بعد نقله لما يشهد لذلك): وهذا يقتضي أن المجتهد لا يُضَلِّلُ غيرَه بمخالفته في اجتهاده، وإنما الضلال: أن يعمل الرجلُ بالشيء على مخالفةِ اعتقادِه من تحليلٍ أو تحريمٍ، حتى يُقْدِم على ما يرى أنه يعصي به، كان اعتقادُه عن اجتهادٍ أو عن تقليد”. ومن أحكام الإسلام المتعلقة بالاختلاف المعتبر التي لا يصح فَهْمُ قرار الملك بخلافها: أن الأقوال المعتبرة لا يجوز لأحد أن يمنع من الإفتاء بها ولا العمل بها، لا اجتهادًا ولا تقليدًا؛ إلا في حالة واحدة، سيأتي التنبيه عليها. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد سئل عمن يقلِّدُ بعضَ العلماءِ في مسائلِ الاجتهاد، فهل يُنكَرُ عليه؟ أم يُهْجَر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟ فأجاب: “الحمد لله: مسائل الاجتهاد مَنْ عَمِلَ فيها بقولِ بعضِ العلماءِ لم يُنكر عليه، ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه. وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رُجْحَانُ أحدِ القولين عملَ به، وإلا قلّدَ بعضَ العلماءِ الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين”. بل لقد نقل شيخُ الإسلام ابن تيمية الإجماعَ على ذلك، فقال: “وليس للحاكم وغيره أن يبتدئ الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ وإلزامهم برأيه واعتقاده: اتِّفَاقًا، فلو جاز هذا، لجاز لغيره مثلُه، وأفضى إلى التفرُّقِ والاختلاف”. ونقل الإجماع على ذلك إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، ثم قال: “فلا ينبغي أن يتعرّضَ الإمامُ (يعني الحاكم) لفقهاء الإسلام، فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام، بل يُقرُّ كلَّ إمامٍ ومتّبعيه على مذهبهم، ولا يصدّهم عن مسلكهم ومطلبهم”. وتحدث عن ذلك جمع من العلماء، وكلهم ينص على أن القول من الاختلاف المعتبر لا يجوز لأحد أن يمنع الناس من الإفتاء أو العمل به اجتهادًا أو تقليدًا. ولذلك فلا يصح أن يفسر بعض الناس قرار الملك الذي جاء لإعزاز الدين وأهله بما يخالف الدين وإجماع أئمة المسلمين، بل هذا فيه أبلغ الإساءة لقرار الملك (وفقه الله تعالى). إذن فينبغي أن نفهم قرار خادم الحرمين الشريفين على أنه يمنع من الإفتاء بالأقوال الشاذة غير المعتبرة، ويبقى أن تحديد القول الشاذ من غيره له ضوابطه المعلومة، وقد بينتها بوضوح في أحد كتبي، وهو كتابي (اختلاف المفتين)، لأنه لا يصح أن تبقى هذه الضوابط مفتوحة لمتشدد أو متفلت! ليمارس هؤلاء تصفية الأقوال حسب أهوائهم ورغباتهم: إلى معتبرة وغير معتبرة، وشاذة وغير شاذة. أما متى يجوز المنع من العمل بالقول من الأقوال المعتبرة ؟ فالجواب: إن الأصل في كل قول معتبر أنه مباح، والمباح حلالٌ طيب، والحلال الطيب لا تترتب عليه مفسدة، وخروجه عن هذا الأصل الأصيل لا يكون إلا في حالات طارئة وقليلة جدا. وفي هذه الحالات الطارئة والقليلة يجوز منع العمل بالقول المعتبر للمصلحة العامة، ولكن يجب أن نعلم أن هذا المنع خلاف الأصل، وإذا أمكن إزالة المفسدة الطارئة على العمل بالقول المعتبر فيجب ذلك علينا، ليعود العمل بالقول المعتبر مسموحًا به نظامًا كما كان مسموحًا به شرعًا. هذه أحكام شرعية متعلقة بالخلاف، لا يصح فهم قرار خادم الحرمين الشريفين (حفظه الله) إلا من خلالها، ولا يحق لأحد أن يسيء إلى قراره الإسلامي بادعاء مخالفته للإسلام. وأمرٌ ثالثٌ وأخير، لا يمكن أن نفهم قرار خادم الحرمين الشريفين إلا من خلاله أيضًا: وهو أن هيئة كبار العلماء مؤسسة حكومية، ومؤسسة بشرية، فهي لذلك تصيب وتخطئ، وليست معصومة. وتقاريرها السنوية تحال إلينا في مجلس الشورى، للنناقش أداءها ولننقدها. فنقدها النقد البناء، وتخطيئها، لا يعارضه قرار الملك (حفظه الله)؛ وإنما الذي يعارضه هو نقدها النقد الهادم غير البناء، والذي يدل على عدم أهليتها للإفتاء. بل لا يعتقد الأعضاء الفضلاء في هيئة كبار العلماء أنفسهم أن قراراتهم واجتهاداتهم معصومة، فهم أنفسهم قد يتراجعون عن بعض اجتهاداتهم، وهم أنفسهم يعلمون علم اليقين أنه لا دليل على عصمة اجتهادهم من الخطأ، ويعلمون بجواز أن يخالفهم غيرهم. ولذلك فلا يصح أن نظن أن كل حكم أو اجتهاد خالف هيئة كبار العلماء، أو أن كل نقد لهم يدخل في المحذور الشرعي، ولذلك لا يمكن أن يتناوله قرار خادم الحرمين الشريفين (حفظه الله). ولذلك حرصت على التأكيد على هذه المعاني في قراءتي الخاصة لهذا القرار التاريخي المهم. وعندي اقتراح لهيئة كبار العلماء بخصوص ضبط الفتوى؛ تطبيقًا لقرار خادم الحرمين الشريفين، وهو يقوم على شقين: الأول: أن الأصل في كل حامل شهادة عليا في العلوم الشرعية، يجد في نفسه الأهلية للإفتاء، أنه مسموح له بالإفتاء. وهذا هو المعمول به مع بقية التخصصات، كالطب والهندسة وغيرها من العلوم، فشهادة الدكتوراة في الطب مثلًا الصادرة من جامعة معتبرة كافية للسماح للشخص بأن يمارس الطب، دون حاجة إلى تشكيك في أهليته، ولا تتوقف أهليته على رأي وزير الصحة فيه؛ إلا إذا كان هناك شك في شهادته، أو إذا كثرت أخطاؤه الطبية بعد ممارسته للطب، بما يدل على قلة مهارته أو قلة أمانته. فالأصل في حاملي الشهادات العليا في العلوم الشرعية ممن يعرفون من أنفسهم القدرة على الإفتاء أنهم مؤهلون للإفتاء، وأنه واجب عليهم بيان حكم الله تعالى الذي تعلموه وأُخذ عليهم الميثاق الإلهي ببيانه، حتى يثبت فيهم النقيض. ويبقى غير حاملي الشهادات: فهؤلاء تشكل لهم لجنة، للنظر في تأهلهم من عدمه. الثاني: أن الشخص المتأهل (بحسب شهادته المعتبرة) لا يُمنع من الفتوى إلا بعد كثرة الشواذ منه، وبعد مناقشته بعلم وإنصاف، وبعد ثبوت جهله أو قلة ديانته؛ لأن الجهل أو الفسق هما الشرطان اللذان نص عليهما جميع من تكلم عن هذه المسألة من العلماء لعدم جواز الإفتاء. وهنا نعود إلى التأكيد على ضرورة تحديد ضوابط وصف القول بالشذوذ وعدم الاعتبار، وإلى التأكيد على الأهمية القصوى لهذا الضابط الذي يجب أن يكون ضابطًا مجمعًا عليه، وإلا فسنعود للدور في الاختلاف: هل هو معتبر أو غير معتبر. وأختم هذه القراءة بالدعاء لخادم الحرمين الشريفين بأن يوفقه الله تعالى إلى ما فيه صالح العباد والبلاد، وبالدعاء لهيئة كبار العلماء ب يعينهم الله تعالى على بيان الحق للناس والقيام بواجبهم في الدعوة والإرشاد. • عضو مجلس الشورى