(1) من المخجل أن يغيب رجل مثل “غازي القصيبي” ولا تكتب عنه.ولكن الأكثر خجلاً أن تكتب عنه شيئًا صغيرًا لا يليق به وبقامته.إذن -من البدء- أعتذر لكم (وبخجل) عن هذه الكتابة! (2) أول سؤال خطر على بالي: من أين أبدأ؟ لو أن الحديث يدور حول رجل جميل بحجم بحيرة.. لهان الأمر..ولكن الحديث يدور حول الرجل / البحر .. فمَن يضمن لي عدم الغرق في منتصف الكتابة؟! (3) على سواحله ستجد: غازي.. ابن “عبدالرحمن القصيبي” أحد أثرى أثرياء زمانه، لم يأتِ للعمل العام وعينه تتلصص على العقود! أتى وعينه تراقب المجد البعيد..لم يأتِ لكي “يأخذ”، أتى لكي “يعطي”.على سواحله ستجد: الأستاذ الجامعي / الشاعر / الوزير / الروائي / السفير / الكاتب..الحر والتنويري والمقاتل الذي يحترمه الجميع.. حتى خصومه.على سواحله ستجد: شاعرًا جريئًا يكتب آخر رسائل المتنبي إلى سيف الدولة.على سواحله ستجد:“شقة الحرية” التي فتحت أبوابها للرواة الجدد.على سواحله ستجد: زاوية “في عين العاصفة”.. لم تكن زاوية، كانت خندقًا على حد الوطن.على سواحله ستجد: ألف شهادة وشهادة تقول لك: إنه من القلّة التي لم تفسدها السلطة.على سواحله ستعرف: أنه الواحد / الكثييييير.. وستبكي لفقدهم جميعًا!
(4) أول مرة رأيته فيها، في منتصف التسعينيات، في حفل للمعهد الدبلوماسي.. كانت تحيط به هالة من الضوء.. أردت أن أصافحه وأقول له بأنني أحبه.. ولم أفعل! منعني الخجل.. أردت أن أقول: أنا من جيل عشق غازي القصيبي، وبهرته شخصيته. أردت أن أقول له: إنني في طفولتي كتبت قصيدة فيك.. نعم كانت ركيكة وساذجة.. ولكنها صادقة ومحبة لك. أردت أن أقول له إن من أول الكتب التي اقتنيتها في حياتي هي كتبك.. وإنك أحد الذين هذّبوا ذائقتي، وفتحوا النوافذ في رأسي الصغير، وجعلوني أعشق صبية حسناء اسمها “الحرية”. أردت أن أقول كل هذا.. وأكثر.. ولم أفعل! اعذرني يا سيدي، كنت شابًا شماليًّا صغيرًا -وفي مكان لا يشبهه- وأربكه الضوء المنبعث منك. ولكنك من القلّة الذين لم يخذلوني.. كنت طويلاً جدًّا (كل الذين أحبهم أتخيّل أنهم طوال القامة.. لا أدري لماذا).. وأنت كنت طويلاً أكثر من اللازم! (5) غازي القصيبي:من القلة الذين استطاعوا أن يقرأوا مستقبل الغلو.. بوضوح وقاتل بشجاعة كل فكرة متطرفة.اختلفوا على ما تخطه يده، ولكنهم اتفقوا على نظافة هذه اليد في كل منصب ذهبت إليه.لهذا: حتى خصومه يحترمونه.رغم كل الاختلاف حول وزارته الأخيرة، إلاَّ انه يظل بنظر الغالبية من الشعب السعودي: هو الوزير الأكثر شعبية طوال العقود الأربعة الماضية. (6) أكرر اعتذاري عن هذا المقال الصغير / القصير عن هذا الرجل الكبير / الطويل.فلنتوقف عن الكتابة عنه.. ونكتفِ بالبكاء عليه.وفي المستقبل، سيأتي أولادنا ليكتبوا عنه بشكل أفضل وأصدق. جريدة المدينة