لم أكن أتصور حين حضوري لحفل النادي الأدبي بالرياض بالتعاون مع صحيفة الجزيرة عند تدشين كتاب «الاستثناء» أنني لم أعد قادراً على لقاء غازي، حيث قدم الأستاذ خالد المالك محاضرة عنه بهذه المناسبة بمركز الملك فهد الثقافي بالرياض، ومنذ ذلك الحين وأنا أقلب هذا الكتاب الضخم الذي جمع فيه ما كتب عنه في ملحق الثقافية بصحيفة الجزيرة بجهد وفي من الدكتور إبراهيم التركي، ومنذ ذلك الحين وأنا أتردد على بعض كتبه لأقرأها وأستفيد منها، سواء كتابه الشهير «حياة في الإدارة» أو غيره عشرات من الإرث الكبير النافع، والكمال لله والعصمة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وغفر الله لغازي ورحمه وأسكنه فسيح جناته. من منا لم يقشعر بدنه وينتفض قلبه من هذين البيتين اللذين كتبهما غازي وأرسلهما إلى الشيخ سلمان العودة وهو يقول : أغالب الليل الحزين الطويل ... أغالب الداء المقيم الوبيل أغالب الآلام مهما طغت ... بحسبي الله ونعم الوكيل فهل هناك أكثر من هذه المعاني الروحانية والإيمانية الوجدانية التي حلق بها أبو يارا، فقد غالب ليله الطويل لمواجعه، وغالب داءه المقيم في جسده، كما غالب الآلام مهما طغت وارتقت وصعب على تحملها الجبال الرواسي، وكل ذلك ليس بقدرته البشرية المجردة، ولكن بهويته ووحدانيته وتوحيده لله رب العالمين، فهو حسبنا لا سواه، وعليه نتوكل في السراء والضراء. كم رددت هذين البيتين ولمست صدقهما ومواجعهما وما يحملانه من هموم وغموم، كلها تحت المغالبة ما دام قد احتسبها عند الله وتوكل عليه في حال طغيانها، فيا لله كم في البيتين من إيمان ووجدان والتجاء لله رب العالمين. غازي مر من هنا، ولكنه ليس كغيره، فقد ترك البصمات والدروس كما أبقى في نفوسنا العبرات على فراق أخٍ مسلم مؤمن مواطن مخلص، جعل من نفسه وعصاميته وتوكله على الله نموذجاً يحتذى للسالكين في طريق عمارة الأرض وزينتها، فهو الأكاديمي والقيادي والروائي والشاعر وإلى آخر سلسلة الصفات الكريمة والأخلاق الحميدة، فهو لم يخسرنا، لأنه قدم إلى أرحم الراحمين، ولكننا نحن الذين خسرناه، وخسرنا بوفاته رجلاً قل نظيره، فهو الوزير والسفير، والكبير بهمته ومع الصغير بتواضعه، والأنيق بهمته، والمتبذل بقلبه الكبير ويده المبسوطة. إننا اليوم حينما نكتب عنه؛ فليس لأنه بحاجة لهذه الكلمات، ولكنه بحاجة للدعوات، التي نرفعها في هذا الشهر المبارك ولياليه المباركة بأن يغفر له ويرحمه ويعافيه ويعفو عنه ويكرم نزله ويوسع مدخله ويغسله بالماء والثلج والبرد وينقيه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأن يجازيه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً منه وغفراناً ولا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده وأن يغفر لنا وله. ولكن نحن الذين بحاجة للتأمل في مسيرته التي تعد نموذجية في حياتنا المعاصرة، ففي نجاحاته درس للمتشائمين، وفي وطنيته درس للمشاغبين، وفي إخلاصه درس للغوغائيين، وفي تحمله وسعة صدره درس للمنغلقين واليائسين، وفي ابتسامته درس للمكفهرين، وفي محبته لغيره درس للشامتين، وفي كل صفة حسنة تتهادى بين قلبه الطاهر ولسانه العفيف درس لجيل يحتاج لقدوة معاصرة يتقوى بها على جفاف الزمان وصلابة الإنسان وحدة اللسان وجفوة البنان. نعم فقد مر من ها هنا رجل عظيم اسمه غازي، غزا في حياته من أجل دينه ووطنه، فكم مدحه البعيد قبل القريب والصغير قبل الكبير والعامي قبل العالم، كل ذلك لأنهم شهداء الله في أرضه، فشهدوا له بخير، حينما أنكر ذاته، وداس على مصالحه الخاصة لأجل بلاده وإخوته، فلم يعرف خلال عقود عمره السبعة أي راحة، فمن جامعة إلى سكة الحديد، ومن وزارة إلى أخرى، ومن سفارة إلى أخرى، ثم من وزارة وليدة إلى وليدة أخرى، وهو يحقق النجاحات تلو النجاحات، متحملاً ما يأتيه من ويلات الزمان وعوائق الطريق، وتحمل القريب قبل البعيد، فأتعب نفسه من أجل أن يريحنا، وأسهر نفسه من أجل أن يؤمننا، فكم من حق له في رقابنا، وكم من دَين له في حساباتنا، وهو الآن أحوج ما يكون لدعائنا، وحسن ذكرنا له، فنحن أبناء الإسلام، تعلمنا الوفاء والمدح، ونهينا عن الجحود والقدح، وإن قصرنا في حقه فضلاً عن إن اعتدينا على قدره فلن - والله - نضر إلا أنفسنا، فهو في ضيافة رب العالمين، ورحمة أرحم الراحمين، وإننا قد أشهدنا الله وجميع خلقه أننا أحببناه في الله وبدون أن نراه، ففي أعماله شهاداته، وفي مسيراته بصماته، فيا لله ما أكرم غازي تجاهنا، وما أبخلنا تجاهه، فإن قصرنا في شكره وتقديره حال حياته، فإننا لن نكل أو نمل أن ندعو الله له بعد مماته، ليجزيه عنا خير الجزاء وأوفاه. وداعاً يا غازي وقلوبنا خاشعة لله رب العالمين، ومحاجر مدامعنا تغرق بفراق ذلك الوجه الوضيء، لكننا لن ننساك، وبأكف الضراعة نلجأ إلى الله بأن يجزيك عنا خير الجزاء، وسنقتفي أثرك، ونربي أولادنا على نحو طريقك، الذي أتعبت فيه غيرك ومن هو من بعدك، فبك رأينا الأخلاق العالية، والسلوكيات الراقية، والإخلاص الذي يمشي على الأرض، والأمانة التي تتحدث عن نفسها، وحب الخير للغير كما قرأناه في أسفارنا ولكننا ما رأيناه إلا قليلاً، والصدق الذي تهادى بين شفتيك العفيفتين، ويديك الكريمتين، وقلبك الطاهر. مر من ها هنا غازي، وبقينا نحن بلا غازي، وأما هو فذهب إلى رب غازي، الذي هو الغفور الرحيم والعادل الكريم، فنعترف مخبتين بأننا قصرنا معك في حياتك ومن بعد مماتك، ولكنك دلفت إلى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، فلك منا يا غازي تحية الوداع، بعد أن ودعنا قدوة مخلصة كانت سنداً لنا في همنا وعزمنا وحزمنا وحسمنا، والله حسبنا ونعم الوكيل.