مستلّة من كتاب الرياض بعنوان: دراسات جمالية نصيّة في الشعر السّعودي الجديد (ممارسة في النقد التطبيقي) ل د.عبدالله خلف العسّاف جامعة الملك فهد للبترول والمعادن - عنوان المجموعة: يافدى ناظريك - الكاتب: غازي القصيبي - تاريخ النشر: 2003م - الطبعة الثانية - الجهة الناشرة: مكتبة العبيكان، الرياض - المادة: شعر - عدد الصفحات: 114 صفحة من الحجم المتوسّط - عدد النصوص: 23 نصًا لا يمكن قراءة مجموعة (يا فدى ناظريك) للشاعر غازي القصيبي خارج الإطار الموضوعي الذي تنحازُ إليه أو تتحرّك ضمنه. تنتمي المجموعة بامتياز إلى التيار الرومانسي الذي انتعش خلال فترة ما بين الحربين على أيدي شعراء مثل أبي القاسم الشابي وعمر أبو ريشة وعبدالسلام عيون السود. ويتجلّى المبدأ الفلسفي الذي ارتكز عليه هذا التيار -بأشكاله المختلفة- من خلال الاحتفاء الشديد بالفرد، وتأكيد أولويته بالنسبة إلى المجموع، ويمكن اختزال ذلك بالمقولة التالية: (رؤية الوجود من خلال الذات). إن البدء من الذات يُلغي الواقع بطريقة ما، وإن كون الواقع ممتلئًا بالتناقض يزيد من بشاعته. وباعتبار أن الواقع ليس مصدر ثقة تتجه الأذهان إلى مصدر آخر للإبداع. وقد تجلّى في شعر هؤلاء في المبالغة في شيئين العاطفة والخيال. وبما أن الواقع أقوى من الفرد، فالعلاقة بينهما غير متكافئة، وعلاقة الشاعر به هي علاقة صدامية، ولأنها كذلك كان الشاعر في التيار الرومانسي كثير الشكوى والألم. ولعل هذا مايسوّغ هيمنة المناخ التراجيدي على شعرهم مقارنةً بالقيم الجمالية الأخرى: الجميل والقبيح والكوميدي والجليل والسامي والرفيع، وكذلك هربهم المستمر إلى الطبيعة، ولعلهم بهذا يُجرون نوعًا من التوازن الذي افتقدوه في الواقع. وقد تميّزت الصورة الفنية -بناء على ذلك- في هذا التيار (بالفردية والاهتمام باللامألوف والغرابة)، و(الاهتمام بعناصر الطبيعة)، و(الصدام مع الواقع)، و(القلق والاغتراب)، و(الشعور الدائم بالهزيمة)، و(الخصوبة المتميزة في اللغة والتراكيب)، و(التنامي الداخلي من خلال تأكيد الوحدة العضوية)، و(المبالغة الوجدانية)، و(الحلم). وبالارتكاز على هذه العناصر تُغلِّبُ الصورةُ في هذا التيار الذاتَ على الموضوع، وتغلّب العاطفة على الفكر واللاشعور، ويأخذ الخيال الدور البارز في تشكيلها، وفي استحضار الكلمات، وبناء الحالات المختلفة. وتنطلق -بناء على ذلك- القيمُ الجمالية من الفرد وإليه، وكذلك النماذج المصاغة فنيًا، وأساليب التعميم. ولعل كل ما ذكرناه آنفًا يشكّل مجتمِعًا (الوعي الجمالي الرومانسي)، هذا الوعي الذي صاغ من خلاله الرومانسيون رؤيتهم للعالم ورؤاهم. لا أريد أن أحكم على مجموعة غازي القصيبي من خلال المقولات الجاهزة السالفة الذكر. ولكني أردت أن أجدَ مدخلًا موضوعيًا لقراءة هذا النمط من الشعر، وللمناخ الفني الذي تتحرّك فيه المجموعة، لكي يتسنى لي تفسير كثيرٍ من القضايا التي ستتناولها المجموعة وتعبّر عنها. وأريد أن أستبق الأمور لأشير إلى أن المجموعة تتضمن مستويين متفاوتين من التعبير والتلقّي، أولهما ضعيف وتهبط فيه (الشعرية) إلى أدنى مستوياتها، ويبدو ذلك في (حقل الرؤية)، وثانيهما تتحقّق فيه (الشعرية) في أعلى مستوياتها، ويبدو ذلك في (حقل الرؤيا). أولًا -: حقل الرؤية: تعتبر (الرؤيةُ) في الشعر البعدَ الأول للصورة الفنية، وتعتبر (الرؤيا) البعد الثاني الذي تسعى الصورةُ إلى استشرافه وتجسيده. ولابد من التأكيد على تلازم البعدين من حيث المبدأ، وعلى تفاعلهما ضمن الصورة الفنية. فالشاعر إما أن يرفض الواقع وإما أن يقبله، وإما أن يرفض بعضه ويقبل بعضه الآخر. وهو في كل الأحوال يبحث عن البدائل. ولابد أن يكون وراء وجود البدائل مثيرٌ واقعي. والرؤيا تأتي عفويةً أو غير واضحة في بداية تجربة الشاعر الفنية، ثم تنتقل فيما بعد في أعماله أو في بعضها إلى رؤيا تكاد تكون مكتملة. وهذا ما نفترض وجوده في مجموعة القصيبي. تتشكّل (الرؤية) في نصوص (يافدى ناظريك) من مجموعةٍ من الأركان: أولها (الواقع السياسي البائس)، وثانيها: (الفرد الخائف، المأزوم، المغترب، المهزوم). ولعل الواقع السياسي البائس يشكّل الأساس في قلق الفرد وأزمته، وليس الواقع الاجتماعي بمجمله، كما جرت العادة لدى كثير من الشعراء. يقول الشاعر في ذكرى فاروق القصيبي: أتشكو إلي الموتَ؟ أشكو نقيضَه حياةً تُريني الموتَ في مُرِّها عذبًا أُودِّعُ أحبابي بظاهرِ أدمعي وأكتبُ بالدمعِ الذي لايُرى الكُتبا وأحمل أوجاعي وأوجاعَ أمتي وأعرفُ أدوائي ولاأعرفُ الطِّبا ويؤلمني مَرُّ السنين كأنها تشقُّ بأضلاعي إلى حتفها دربًا والملاحظة الأساسية أننا لا نستطيع أن نعزل الشعار السياسي عن معظم نصوص المجموعة. فالهاجس السياسي لدى الشاعر لم يكن خفيًّا، وإنما كان مباشرًا، وأحيانًا يأتي مُقْحَمًَا على النص كما في (نص الكرافتة) التي أهداها الشاعر إلى حفيده غازي حيث يقول: وجاءَ يختالُ زهوًا كالأمةِ العربية سؤالي هنا: ما علاقة هذا الحفيد لكي يثقله الشاعرُ بهموم الأمة العربية؟ ومثلُ ذلك في قصيدة (ترنيمة لسلمان) حيث يُقحم الكاتبُ الشعار السياسي في نص جميل ممّا أضعف من إمكاناته الفنية. ويخلص الشاعر من خلال البؤس السياسي واغتراب الفرد إلى أن الواقع بعامة رديء، يقول صراحة فيه: ما أفجعَ الدنيا إذا ما أصبحتْ فيها الحقيقةُ جثّةً في مأتمِ ونعتقد أن علوّ الخطاب السياسي أضعف الفني في المجموعة. وأكثرُ ما يبدو ذلك في نص محمد الدرة (يا فدى ناظريك). وهذا النص يدخل ضمن ظاهرة ما سمّي (بشعر الحجارة). لقد كتب نزار قباني، ومحمود درويش، وأدونيس، وسعدي يوسف، ويوسف الخطيب، وأحمد دحبور، وعصام ترشحاني، ومحمود علي سعيد، وعلي شمس الدين، وشوقي بغدادي، وفايز خضور وغيرهم كثيرًا عن أطفال الحجارة. بل أصبح كثيرٌ منهم يفتتحُ بعضَ مجموعاته بنص من شعر الحجارة، وكأنه ورقة اعتراف يريد الشاعر أن يبرز انتماءه إليه. ويمكن القول في هذا النوع من الشعر بعامة، وفيما كتبه القصيبي بخاصة في المجموعة أن هذا الشعر: (لا يرتقي إلى مستوى الحدث)، وهو (يتميّز بالمنبرية)، و(التسجيلية والمباشرة والشعاراتية)، و(الحماس المفتعل)، و(مما جعله ضعيفًا تداخل السياسي بالفني قسرًا). فأنا لا أجد مسوّغًا للتكرار في قصيدة (يا فدى ناظريك) التي كتبها الشاعر عن محمد الدرة. فهناك ثمانية أبيات متتاية تبدأ بعبارة (يافدى ناظريك). قد يكون هذا الشعور مسوّغًا لدى الشاعر وصادقًا وإنسانيًا، ولكنه لم يصل إليّ كمتلقٍ لأنه افتقد إلى القدرة على التوصيل. وظني أن التكرار وافتقاد (الشعرية)، وما يتعلّق بها من مباشرة وتسجيل وتقريرية أضعف من جانب التأثير والتوصيل. وعلى الرغم من أن الشاعر سعى إلى التنويع في القافية والتركيب والجمل بقي النص ضعيفًا، يقول: هدَرًا مُتَّ يا صغيري محمدْ هدرًا عمرُكَ الصبيُّ تبدّدْ يا فدى ناظريكَ كلُّ زعيمٍ حظُّهُ في الوغى أدانَ وندّدْ يا فدى ناظريكَ كلُّ جبانٍ راحَ ألفَ فرسخٍ يتوعّد يا فدى ناظريكَ كلُّ بيانٍ بمعاني هواننا يتوقّد يا فدى ناظريكَ كلُّ يراعٍ صحفيٍّ على الجرائدِ عربدْ يا فدى ناظريكَ كلُّ مذيعٍ في سكون الأثيرِ أرغى وازبدْ قد فهمنا تهوّدَ البعضُ منّا أو لمْ يبقَ معشرٌ ما تهوّد وبناء على هذا فأنا أُخرج ما سمّي بشعر الحجارة، وهو يدخل ضمن النثر الوجداني، أو البكائيات النثرية التي انطوت على شكل الشعر أو هيئته. (أما ثالث أركان الرؤية) في المجموعة فتتمركز في (بؤس الكلمة) من خلال الوضع المزري الذي وصل إليه الشعر. والشاعر ينعي الانحدار الذي أصاب الشعر العربي في العصر الحديث. يقول الشاعر في رثائه للجواهري (نلاحظ هنا استمرار هيمنة الهاجس السياسي): أأبا الفراتِ سقتْ ثراكَ غمامةٌ تذرو عليه جواهرًا وكواكبًا ماذا تركتَ؟ عواصمًا مقهورةً وزواحفًا مذعورةً وأرانبًا ويقول عن الشعر وما آل إليه: أشكو إليكَ أبا القصيدِ قصائدًا طرحتْ ملامحَها النبيلةَ جانبًا لم تأتِنا عربيةً لتسوغَها أذنُ الِخيامِ ولا تسرُّ أجانبًا مِسخٌ هجينٌ ليسَ يُعرفُ أصلُهُ لا في الحصانِ ولا الحمارِ مناقبًا وطلاسمٌ مفتونةٌ برموزها تهمي عليكَ سناجبًا وطحالبًا ما أبذأ الأشعارَ إن هي نكّرت فتنكّرت ظلمًا صراحًا ثاقبًا على الرغم من أننا لسنا في موقع الرد، لكن التُّهم التي سردها الشاعر لا تَصدُقُ على كل النتاج الحديث، وظني أن الشاعر يعرف ذلك جيدًا. فالزمن اختلف والحضارة تغيّرت، ولكل عصر خصوصيته. وكما يوجد شعراء مميزون على مرّ عصور الشعر العربي القديمة يوجد كذلك شعراء مميزون في العصر الحديث. ومن الخطأ أن نقيس جمال الشعر أو قبحه بقدر قربه من الأنموذج العمودي أو بعده عنه. (ورابع أركان الرؤية) فقدان الفحولة. والفحولة هنا رمزٌ للشرف والأرض والعِرض. يقول الشاعر في نص الفياغرا: يا سيدّي المخترع العظيم هذا رجاءُ شاعرٍ ينوحُ لا على شبابِ سيفهِ لكن على أمتهِ القتيلةْ يا سيدي المخترع العظيم يا من صنعتَ بلسمًا قضى على مواجعِ الكهولة وأيقظَ الفحولة أمَا لديك بسلمٌ يُعيدُ في أمتنا الرجولهْ ولكي يُكمل الشاعر (لوحة الرؤية)، ويثبّتها، ويعمّقها بأبعاد حسية مشخّصة قام -في الركن الخامس للرؤية- بتصميم خلفية حسية تتحرك جميع عناصرها فيها، وهذا مما يُحمَد للمجموعة، ويؤكّد نضجها فنيًا وجماليًا. وقد كان لبيروت / المكان هذا الموقع، حيث تتجلّى فيها أبشع الصور التي انطوت عليها الرؤية. ففيها يجتمع السقوط السياسي بالتفكك الاجتماعي بالانهيار الثقافي والفني معًا، يقول: آهِ بيروت ما لوجهكِ يبدو مثلَ وجهي مبرقعًا بالذبولِ؟ أتمشّى بينَ الخرائبِ وحدي أهُنا كان مرتعي ومقيلي؟ آهِ بيروت ودّعيني فإني ضِقتُ ذرعًا بوقفتي في الطلولِ ستعودينَ أنتِ بنتًا ولكن عودتي للصبا سرابُ أصيلِ ثانيًا -: حقل الرؤيا: لقد سعى الشاعر في هذا الحقل إلى رسم صورة مكوّنة من مجموعة من العناصر بوصفها بديلًا للرؤية. وهي أشبه بالطموح (أو الحلم المشروع) الذي يجسّده الشاعر كبديل للعناصر التي أوردها في الرؤية. وأريد أن أؤكّد أن (الرؤيا) لدى الشاعر جاءت ناضجة، متبلورة، متكاملة، وأن الشعرية بلغت فيها أعلى مستوياتها. أول الأركان: الاستقرار السياسي، وثانيهما الأمان الاجتماعي حيث ينتشر العدل، ويسود الحب، وينعدم القتل والسبي، وهذان الركنان بديلان موضوعيان للفساد السياسي والاضطراب الاجتماعي في الرؤية. وقد مثّل الشاعر لذلك بمواقع كثيرة في نصوصه. من ذلك قوله: أرى طفلةً في زحامِ الحياة تخوضُ الجموعَ بحزنٍ يثورْ ترومُ الحنانَ وترجو الأمانَ وتبحثُ عن مرفأٍ من حبور يحبّون فيكِ المثيرَ المثيرَ وأعشقُ فيكِ الطهورَ الطهور أما الركن الثالث للرؤيا فتمثّل في تأكيد المجموعة على مفهومي (البراءة والنقاء) وتجسيدهما. والشاعر ينشد هذين العنصرين في الطفولة الجميلة. ولعل نص (ترنيمة لسلمان) حفيد الشاعر، وعمره ستة شهور يعبر عن ذلك. يقول: سلمانُ، هل تمنحنُي تذكرةَ الدخولِ في عالمِكَ الصغير في عالمِ الدميةِ والحليبِ والسرير أحسنتَ يا سلمان اسمعْ إذن حكايتي وأنتَ فيها بطلُ الأبطال تجولُ في الغابةِ لا تهاب تلاعبُ البطةَ، وتجمعُ الأزهار فيُقبِلُ الأصحابُ يهتفون: سلمان يا سلمان يا فارسَ الأولاد يا أشجعَ الشجعان أنتَ مليكُ الغاب سلمان غفوتَ يا سلمان النص جميل، انسيابي، يطغى التعبير العاطفي فيه على التصوير الفني، وتكمن شعريته في بساطته، وتنوّع عناصره، والتكرار الفني فيه، والجملة الأخيرة التي استطاع الشاعر من خلالها استحضار حرارة الموقف، وبعده الإنساني، بل إن الشاعر جعلنا من خلال ذلك نتقمّص الحالة التي جسّدها، ونأخذ موقعه. لا أدري لماذا شدّني هذا النص ؛ فهو يدخل ضمن السهل الممتنع ويعبّر عن الصدق والسلاسة والتدفق العاطفي، ولولا أن الشاعر أقحمَ الخطاب السياسي في جزء من النص لكان من أجمل نصوص المجموعة. ورابع أركان الرؤيا (الفرد المتوازن، الخصب، المعطاء، المنسجم مع نفسه). وهذه الصفات هي بدائل للفرد المغترب، العدمي، المأزوم، الخائف في الرؤية. وقد مثّل الشاعر لهذا الفرد برثائه لنزار قباني، ولعل ما كتبه فيه من أجمل ما كُتب عن نزار قباني، وهو نص فائقٌ بكل المقاييس الفنية، ممتلىء بالصور، وعفوية التعبير، وطغيان الجانب العاطفي، والجدة في تشكيل الصورة ومحتواها، يقول: كتبتُ اسمكَ فوقَ الغيمِ بالمطرِ وبالجدائلِ في سبّورةِ القمرِ يا للوسيمِ الدمشقي الذي هرِمتْ دنياهُ وهو على وعْدٍ مع الصغرِ تجيئُنا يا أميرَ الفلِّ متّشِحًا بكلِّ ما في ضميرِ الفلِّ من صورِ تركتَ في كلِّ دارٍ وهجَ زنبقةٍٍ كأنما أنتَ إعصارٌ من الزهَرِ تموتُ كيفَ؟ وللأشعارِ مملكةٌ وأنت فيها مليكُ البدوِ والحضرِ إذا قرأناكَ عِشنا رحلةً عبرتْ بكلِّ شيء جميلٍ في دمِ البشرِ. إن الصور الفنية في النص تتميّز بالجدة، والحسية، والحركة، والتشخيص، والحرارة الواجدانية، وخصوبة التخييل الفني. ونشير هنا إلى أن كل نصوص الرثاء تكاد تؤكد الجانب المتكامل للفرد االذي تسعى الرؤيا لصياغته على الرغم من تفاوتها فنيًا. ثالثًا -: القيم الجمالية: عكست المجموعة ثلاث قيم جمالية رفدت جانبي الرؤية والرؤيا. أول هذه القيم (التراجيدي). وقد أكّدت النصوصُ البكائية هذا الجانبَ: (محمد الدرة، نزار قباني، الجواهري، قصيدتان في رثاء عيسى بن سلمان). وتنبع قيمة التراجيدي من زاويتين، أولاهما قدرة الشاعر الفنية على تجسيد التراجيدي ونقله من مفهوم مجرّد إلى قيمة، والزاوية الثانية التي شكّلت جوهر الراجيدي مثّل الشاعرُ لها في انعكاس بشاعة الواقع على الفرد، وسقوط الحلم، والخوف، وموت الجميل المفاجىء. والمجموعة تركز في هذا الجانب على نمطين من الجميل: الطفولة البريئة والأصدقاء الذين ماتوا. ولعل هذا هو السبب في كثرة عدد نصوص الرثاء، وهي تسعة نصوص من أصل (23) نصًا عدد نصوص المجموعة. ونود الإشارة هنا إلى أن (قيمة التراجيدي) غلبتْ من حيث المساحة المكانية على قيمتي الجميل والقبيح، والسبب عائد إلى أن (الوعي الجمالي الرومانسي) ينطلق من فلسفة استعذاب الألم وتقديسه. ولعل هذا هو السبب في ارتفاع مستوى (الشعرية) في هذا الجانب أكثر من غيره. أنظر مثلًا نصوص (وأوّاه يا فاروق، أأبا الفرات، أمير الفل، آه بيروت). وثاني القيم (قيمة الجميل). وقد عكس الشاعر هذه القيمة في أمرين. تمثّل الأمر الأول في (جمال الطفولة وبراءتها)، والثاني في (جمال المرأة). وقد قدّمَ الجميلَ في شكلين أولهما (الجمال المعنوي) الذي برز في الطفولة حيثُ ركّز في هذا البعد على الجوهر، وثانيهما (الجمال الحسي) الذي برز في تجسيد الشاعر للمرأة، وقد ركّز هنا على التناسق الحسي للعناصر المكوِّنة للجميل. ولو حاولنا أن نوحّد بين شكلي الجميل المعنوي والحسي سنقع على صورة متكاملة للجميل في جوهره ومظهره. ولعل هذا ما أراد الشاعر أن يكرّسه في حقل الرؤيا. فالإنسان الجميل بالمواصفات المذكورة سيكون سببًا في الاستقرار السياسي والأمان الاجتماعي ركني الرؤيا المذكورين سابقًا، يقول في المرأة: أشعلتِ عطرَكِ في المكانِ وفي فمي ونثرتِ جمرَكِ في الزمانِ وفي دمي ولمستِني فرجعتُ طفلًا صاخبًا فوقَ المجرّةِ عابثًا بالأنجمِ أوّاهُ وجهُكِ فاتنٌ كحكايةٍ لم تكتملْ كقصيدةٍ لم تُنظمِ أجتازُ شعرَكِ قاربًا في لجّةٍ سوداءَ أبهى من ضياءِ الموسمِ أوّاهُ وجهُكِ فاتنٌ كحكايةٍ لم تكتمل كقصيدةٍ لم تُنظمِ ونودّ الإشارة هنا إلى أن المرأة المجسّدة في المجموعة امرأة غير واقعية، ولعل السقوط المخيف الذي أشار إليه الشاعر في الرؤية لعناصر الواقع، وأزمة الفرد يسوّغ له اللجوء إلى المبالغة في تجسيد البديل الموضوعي، والاحتماء المباشر (بالمَثَل الجمالي) للأشياء كافة، وهذا يؤكّدُ -من جهة أخرى- الموقف الفلسفي الذي ارتكز إليه التيار الرومانسي. وقد خدمَ التنوّع في اللغةُ، والجدة في الصورة الفنية هذا الجانب مما جعلَ الجميلَ أكثر جمالًا. والجميل في الفن هو الجميل في الطبيعة مضافًا إليه عناصر الذات المبدعة. وصياغتُه إحدى مهام الفن الكبير. ونشير هنا إلى أن المرأة في المجموعة شكّلت أحد أهم الهواجس لدى الشاعر، فهناك حنين جارف إليها، وهي الملاذ، والمأوى، وأساس التوازن للفرد: إني أتيتُكِ هاربًا من أزمتي من كلِّ ما في عالمي المتجَهّمِ أشكو إليكِ البعضَ كم قاسمتُهم عِنَبي وكم ضنّوا عليَّ بحُصرمِ وبكيتُ في أحزانِهم واستقبلوا حُزني ببِشْرِ الشّامتِ المتهكّمِ وكان من الممكن أن تخدم هذا الجانبَ (قيمةُ البطولي) التي برزت في نص محمد الدرة، لكن الأنموذج الفني فيه جاء مجرّدًا وضعيفًا. وثالث القيم (قيمةُ القبيح). برز القبيح في المجموعة كنقيض للجميل. وقد غطّى هذا الجانب كافةَ عناصر الرؤية التي جسّدها الشاعر (الواقع السياسي والاجتماعي وأزمة الفرد). ومن سمات القبيح التي جسّدتها المجموعة: القسوة، والتجبّر، والتعطّش للدماء، واللاانتماء، والعبث، الحيادية، والتبلّد ؛ أي كل ما يُفسد جمال الحياة ويشوّه جوهرها الإنساني. ومن النماذج القبيحة التي ركّز عليها الشاعر: المحتلّ (نص يافدى ناظريك)، العصابات التي مارست القتل في بيروت (نص آهِ بيروت)، الشباب الضائع (نص هؤلاء رجالكِ سيدتي). ونُشير هنا إلى أن الشاعر قدّم القبيح من خلال مظهره الحسي ليؤكّد بشاعته. ومما يقول في هذا المجال: لونُهم من رمادْ لونُ أفكارِهم من رمادْ لون ألفاظِهم من رماد (أتُرى لون أسمائِهم من رماد؟) هؤلاءِ رجالُكِ سيّدتي سقطوا في الماهةِ بينَ البياضِ وبينَ السّوادْ أوجهٌ لاتفرّقُ بين السرورِ وبين الشّقاءْ وعيونٌ محنّطةٌ لاتحبُّ الظلامَ ولا تنتشي بالضياءْ بَبغاءُ تُكلّمُهُ ببغاءْ وجمادٌ يحدّثُهُ عن جمادٍ جمادْ هؤلاء رجالكِ سيدتي نخلص من خلال قراءتنا (لحقلي الرؤية والرؤيا)، و(القيم الجمالية) في مجموعة (يافدى ناظريك) للشاعر غازي القصيبي) إلى ما يلي: - ترفض المجموعة الواقع بكافة أشكاله السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية لأنه قبيح بكافة المقاييس. - غَلَبتْ المساحةُ المعطاة (للرؤية) على مساحة (الرؤيا). وهذا أمر طبيعي بالنسبة لمن ينتمون إلى التيار الرومانسي. فهم يرفضون الواقع ويكرّسون جهودهم لبيان بشاعته باعتبار أن العلاقة به صدامية، وهو كما يرون يحجِّم من طموحاتهم، إلى جانب أنهم أولًا وأخيرًا ينطلقون من ذواتهم. - غلبت نصوص الرثاء على بقية النصوص، وهذا -من الوجهة المنطقية- رثاء للواقع. - بدا الفرد في المجموعة مأزومًا ومغتربًا ومهزومًا، وخائفًا، وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن تغلِبَ (قيمة التراجيدي) على بقية القيم. - غلَب الشعار السياسي على الفني والجمالي في نصوص الرؤية، وبخاصة نصوص المناسبات، ولهذا فمعظمها تحكمه (النثرية)، وتضعف (الشعرية) فيه، بينما غلب الفني والجمالي على أغلب نصوص الرؤيا فارّتقت (الشعرية) فيها. - غلبت المباشرة على نصوص الرؤية، وافتقدت -من ثم- إلى (التعميم الفني)، وسجّلت بذلك (غياب الأنموذج) الفني، ولهذا السبب جاء مستوى التلقي في (حقل الرؤية) ضعيفًا، بينما استطاع الشاعر في (حقل الرؤيا) أن يعمّم تجربته الفنية من خلال قدرته على تجسيده النماذج الفنية. - مما أضعف المستوى الفني في حقل الرؤية -إلى جانب كلّ ما تقدّم بعض- نصوص المناسبات التي تغطّي أكثر من نصف المجموعة. - مستوى التخييل في الرؤية تسجيلي ضعيف فنيًا إذا ما قورن بمستوى التخييل في الرؤيا الذي تميّز بالخصوبة والتنوّع. وقد خدمت رمزيةُ اللغة هذا الجانب، وكذلك الصورة الفنية، والقيم الجمالية. - هناك جدّة في محتوى الصورة الفنية في حقل الرؤيا قلّما نعثر عليها في مجموعات شعرية أخرى. - على الرغم من تنوّع المصادر الثقافية وعمقها للشاعر لم نجد لها أثرًا في مجموعته بخلاف ما نراه في تجربته الروائية. خلاصة القول: مهما اختلفنا مع الشاعر غازي القصيبي أو اتفقنا معه تظل تجربته الشعرية التي تمتد لأكثر من أربعين عامًا تستحقُّ التقدير والدراسة.