شهر رمضان غرة بيضاء في جبين الشهور العربية، وجوهرة تتلألأ في عنق السنة الهجرية، شهر كله نور، وشهر نزل فيه النور، فالتقى النوران في الشريعة الإسلامية، فشع الكون وأضاء الزمن، وتعطرت الإنسانية، كل شهور السنة تعد مجالاً للهفوات بحكم الضعف البشري، بيد أن شهر رمضان مزيل سريع لما علق في النفوس من أدران الغفلة في سائر الشهور، ومن لطف الله على عباده ورحمته بهم أن جعل لكل عام هجري مواقف مخصوصة يقف عندها المرء مجبرًا لكي يتهيّأ لمواصلة رحلة العمر الدائبة المستمرة، فهي بمثابة الإشارات الضوئية التي تجبر السائقين المتهورين على الوقوف. شهر رمضان نقطة توقف، وفي الوقت نفسه نقطة انطلاق، توقف من الماضي الرتيب خلال أحد عشر شهرًا من أشهر السنة، وانطلاق لأنه تجديد للعزم وشحذ للهمم، والتزود من محطته الإيمانية بوقود جديد. كم من غافل، وكم من مقصّر، وكم من متهاون، وكم من جاء عليهم شهر رمضان فشعروا بسواد المعاصي والتهاون يجلل وجوههم وصفاءهم، ووجدوا رمضان بأنواره وإشراقاته يمثل بهوًا تسلطت عليه الأنوار، فاغتسلوا تحت أنواره، وأزالوا الأدران، وشحنوا القلوب بنور الإيمان.. وهكذا يدخل رمضان ويخرج، وإذا بأقوام نالوا شرف الالتزام بعد الانحلال، والاستقامة بعد الانحراف، وأصبحوا رصيدًا جديدًا في كنف الله. أقبلت يا رمضان لتطهر قلوب العباد من الفساد.. وأقبلت لتقول للعيون صومي عن النظر إلى الحرام.. وأقبلت لتقول للألسن صومي عن القول الحرام.. وأقبلت لتقول للآذان صومي عن سماع الحرام.. وأقبلت لتقول للبطون صومي عن أكل الحرام.. وأقبلت لتقول للأيدي كفي عن الكسب الحرام.. وأقبلت لتقول للأرجل قفي ولا تمشي إلى الحرام. إخواني، بلوغ رمضان نعمة كبيرة، على من بلغه وقام بحقه، بالعودة إلى الله من المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة عنه إلى الذكر المتواصل، ومن البُعد عنه إلى الإنابة إليه. وفي رمضان عبودية كاملة لله، وهذه هي الحرية الكاملة للإنسان، أوسع الناس حرية أشدهم لله عبودية، وهؤلاء لا تستعبدهم دنيا فانية، ولا تتحكم فيهم شهرة، ولا يستذلهم مال، ولا يقنع شهامتهم لذة، ولا يذل كرامتهم طمع أو جزع، ولا يمتلكهم خوف ولا هلع.. لقد حررتهم عبادة الله من خوف ما عداه، فقد انقطعوا بعبوديتهم لله عن كل خضوع لغيره، فإذا هم في ظاهرهم سادة، وفي حقيقتهم أحرار، وفي أخلاقهم نبلاء، وفي قلوبهم أغنياء، وذلك لعمري هو التحرر العظيم. يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصا ربه في شهر شعبان لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضًا شهر عصيان واتل القرآن وسبح فيه مجتهدًا فإنه شهر تسبيح وقرآن كم كنت تعرف ممّن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان أفناهم الموت واستبقاك بعدهمو حيًّا فما أقرب القاصي من الداني فمرحبًا بك يا رمضان، شهر الخير، ومرحبًا بإشراقتك، ونفحاتك، ومرحى للصائمين.. الفائزين بهذا الشهر. اللهم وفقنا لاغتنام الأوقات، وشغلها بالأعمال الصالحات، ووفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار، وأغفر لنا جميع الذنوب والأوزار، يا أرحم الراحمين.