يحق للوطن أن يفخر بأبوته لأبناء أمثال غازي القصيبي، الذي رجعت روحه المطمئنة أمس إلى بارئها راضية مرضية، في هذا الشهر الفضيل، بعد أن ضرب أروع الأمثلة في العطاء الجميل، الذي تعلو فيه هامة الوطن، وتشدو به الركبان من الأجيال الناهضة التي أحبت القصيبي، وارتوت من ينابيع إبداعاته كأديب، وشاعر، وكاتب متمكّن يمتلك أدوات الإقناع والإمتاع. ولعلّه ليس من قبيل المبالغة القول في الرجل بعد أن قدّم قرابة نصف قرن من العمل المبدع في خدمة الوطن في العديد من المجالات كأكاديمي بارز، ووزير أثبت جدارته، وسفير متميّز أثبت حضوره الفاعل، إلى جانب إبداعاته في مجال الشعر، والمقالة، والرواية، حتى أصبح أحد أبرز الرموز الأدبية والشعرية في بلاده، وفي الوطن العربي، ليس من قبيل المبالغة القول فيه استنادًا إلى تلك الخلفية إنه كان إحدى العلامات البارزة في مسيرة التطوير الإداري في بلاده، وفي مجال الإبداع الفني في مجالي الشعر والرواية على مستوى العالم العربي. كان القصيبي إلى جانب ذلك كله صاحب قلم جريء، ورأي حر، لم يتردد عندما كان سفيرًا لبلاده في المملكة المتحدة في نظم قصيدة امتدح فيها إحدى الفدائيات الفلسطينيات، عندما كانت الانتفاضة الفلسطينية (الثانية) في أشدّها، متمنيًا أن يموت مثلها شهيدًا. واشترط القصيبي للاعتذار عن تلك القصيدة في مواجهة عاصفة النقد التي تعرّض لها من قِبل الكتّاب اليهود في الصحف البريطانية باعتذار ممثلين اليهود في بريطانيا عن جرائم بيغن، وشامير، وشارون الإرهابية في حق الفلسطينيين، فكان يعبّر بذلك الموقف عن الشموخ العربي، والكرامة العربية. ورغم تقلّد القصيبي للكثير من المناصب الإدارية، إلاَّ أنه لم ينقطع يومًا عن الأدب، وظل يؤمن بأن الحوار الهادىء المثمر والبنّاء هو الكفيل بإبعاد شبح التشدد، ووأد الفتن. لقد كان القصيبي بحق الوزير الشاعر، الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس، وكان سفير الثقافة السعودية في عهدها الزاهر، وكان أيضًا رائد الرواية السعودية في مرحلتها الثانية. رحم الله غازي القصيبي، وأسكنه فسيح جناته رمزًا وطنيًّا وثقافيًّا من رموز هذا الوطن العزيز، الذي يعتبر الإنسان ثروته الحقيقية.