صدر كتاب جديد للباحث وصفي أبو زيد بعنوان "معالم الوسطية في الوقاية من العنف والتطرف” يطرح فيه رؤية شرعية لمعالجة المشكلة التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية، جراء ولوج بعض شبابها في فخ العنف والتكفير والإرهاب، فتحول شباب غض إلى قنابل موقوتة، يفجرون هنا، ويسفكون الدماء المعصومة هناك ، يستهدفون كل شيء مباني ومنشآت ومؤسسات، لا يفرقون بين نساء ورجال ، ولا بين شيخ ورضيع، الجميع مستهدفون من الفئة الضالة، ولا حديث لدماء معصومة، أو حرمة لدم المسلم، أو ترويع لآمنين، أو تهديد لمجتمعات مسلمة. وفي هذا الكتاب يقدم الباحث رؤية مقاصدية وسطية لكيفية معالجة ظاهرة العنف والتطرف، ولم يُغرق نفسه -كما يفعلُ الكثيرون- في التعريفات والمقدمات، بل عمد إلى وضع حلول أو معايير خمسة، مع تأصيلها شرعًا أولًا، ثم جوانبها، وكيفية تطبيقها، وثمار هذا التطبيق، ومخاطر تركها عمليًا، وقدم هذا من خلال خبرته بعلم المقاصد، وتوثيقٍ علميٍّ دقيقٍ لكل معلومة. يقول المؤلف: لا تخطئ عين المتابع لحركة التطرف والعنف ما يحدث لها من انتشار وتوسع، وما يخلفه هذا الفكر من آثار مدمرة على مستويات عدة، مما يوجب على أهل العلم أن يتصدوا له، ويقفوا أمامه، محددين أسبابه ودوافعه، وموضحين مظاهره ودلائله، وكاشفين عن طبيعته وماهيته، ومبينين آثاره ونتائجه، وواصفين علاجه ودواءه، مستهدين في هذا كله بهدي القرآن، والسنة العلمية والعملية لسيد البرية-صلى الله عليه وسلم- وفهم السلف الصالح والعلماء الربانيين من أبناء هذه الأمة. ويضيف المؤلف قائلًا: من أهم الأدوية إظهار معالم الوسطية في التعامل مع قضايا العنف والتطرف؛ إذ إن تناول هذه القضايا ابتداءً وانتهاءً، أسبابًا وعلاجًا، في ضوء الرؤية الوسطية لن يعالج هذا الفكر فقط بل سيقضي عليه شيئًا فشيئًا، وتجفيفه من منابعه، حتى يتم القضاء عليه تمامًا، إضافة إلى ضرورة توفير البيئة الصحية التي تتمتع بالحرية في الفكر والنقاش والحوار، مما يفضي في النهاية إلى غربلة هذا الفكر، وظهور الحق عليه، فالحق أبلج، والباطل لجلج، ولن يصح في النهاية إلا الصحيح: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ”. ويرى الكاتب أن هناك معالم تقودنا إلى وسطية في التعامل مع هذه القضايا، من شأنها لو أحسنا فقهها وتبنَّيْناها وروَّجنا لها ودعونا إليها أن تعالج ما نعاني منه من مظاهر الغلو والتطرف، بل تكون وقاية من الوقوع في مثل ذلك، وتجنب البلاد والعباد شر الحوادث والتفجيرات التي تقع في عواصم العالم شرقًا وغربًا، وحدد هذه المعالم في خمسة أمور هي: أولًا: التعمق في فقه مقاصد الشريعة، خاصة مقاصد الجهاد. ثانيًا: فهم نصوص الشرع بعيدًا عن التقاليد الراكدة والوافدة. ثالثًا: إدراك فقه المآلات وفقه الأولويات. رابعًا: التبصر بالواقع الذي يتم تنزيل النصوص عليه بكل أبعاده. خامسًا: الرجوع للعلماء الصادقين والدعاة الربانيين. وحدد المؤلف الأسباب التي أدت بالبعض إلى اعتناق هذا الفكر، واعتماد هذا الفهم في التعامل مع النصوص الشرعية أو في فهم الواقع، وحصرها في سبب رئيس هو الفهم المغلوط للنصوص الشرعية. فقه مقاصد الشريعة في المبحث الأول يتعرض المؤلف لفقه مقاصد الشريعة، وبخاصة مقاصد الجهاد، ويقول: للتعمق في فهم مقاصد الشريعة دور كبير في التوجه نحو التوسط والاعتدال والتوازن في كل القضايا العلمية والفكرية، فمن شأنها أن تضبط حركة التفكير، وتقارب بين وجهات النظر، وتقلل مساحة الخلاف، وتعطي أفقًا رحيبًا للباحث والفقيه والمفتي والمجتهد عند بحث القضايا المستجدة المندرجة تحت مسألة معلومة المقصد والغاية. من مقاصد الشريعة الكبرى ومفاهيمها التأسيسية العمل على حفظ الأمن العام، وإرساء دعائمه في المجتمع، والضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه أن يفكر في تقويضه أو تبديده أو تهديده؛ ولأجل هذا حرم الله تعالى الجرائم الكبرى، مثل: الحرابة، والسرقة، والقذف، والقتل، وغيرها، وشرع لها ما يردع مرتكبيها أو من يفكر في ارتكابها، مثل: حد الحرابة، وحد السرقة، وحد القذف، والقصاص، وغيرها. ومن المقاصد الكلية التي يجب أن تعلم هنا، ويتم التأكيد عليها: أن النفس وحرمتها أمر خطير في شريعة الله، وأن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن قتلها بغير حق فكأنما قتل الناس جميعًا، وكذلك حفظ المال وخاصة المال العام، وحفظ النسل والعقل والدين والعرض. وفي هذه الجرائم وعقوباتها جاء القرآن حاسمًا، في الحرابة، والسرقة، والقصاص، والقذف. ومن المفاهيم الكبرى والمقاصد العليا: إيجاد الحرية والحفاظ عليها، ونشر العدالة، وتحقيق المساواة، وإشاعة التسامح، وكل الأخلاق والمبادئ الإنسانية التي اتفقت عليها البشرية، وتواضعت عليها الإنسانية. ففي الحرية وبخاصة حرية العقيدة يقول القرآن: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ”. وفي العدالة يقول: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ”. وفي الأخلاق يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. مقاصد الجهاد وإذا كان الجهاد والغلو في فهمه وتطبيقه هو البوابة الرئيسة لأعمال العنف وسلوكيات التطرف، مما له الأثر الكبير على زعزعة الأمن وتهديد دعائم النسيج الوطني، فإننا نكون بحاجة إلى وقفة أمام مقاصد الجهاد حتى تتجلى صورته، وتظهر أغراضه وغاياته ومقاصده، لنكشف زيف دعاوى الجهاد التي يرفعها هؤلاء وهم يرتكبون جرائم القتل وسفك الدماء والتفجير والتخريب. ويضيف: إذا لم نراع هذا الفقه سواء المقاصد عامة، أو مقاصد الجهاد خاصة، فسوف نوقع أنفسنا ومجتمعاتنا في مخاطر وأزمات وبلاء كبير وشر مستطير، ومن هذه المخاطر: 1- قصور في الفهم والرؤية للقضايا التي تعرض وتتصور. 2- التحجر والتشدد والتنطع في الفهم والسلوك. 3- توسيع هوة الخلاف لاسيما في القضايا الخلافية. 4- إيقاع الشريعة في ذمة التاريخ دون القدرة على التفاعل مع النوازل المعاصرة. 5- التهوين من أمر النفوس البشرية والأرواح، والإقدام على إتلافها دون مبالاة. 6- نشر الفتنة وزعزعة المجتمعات. 7- إرهاق الدولة بمعالجة قضايا جانبية عن التخطيط المستقبلي والتنموي. 8- تخريب مؤسسات المجتمع وإتلاف المال العام. فهم نصوص الشرع وفي المبحث الثاني يتناول المؤلف “فهم نصوص الشرع بعيدًا عن التقاليد الراكدة والوافدة” ويقول: من أخطر المناهج التي تؤدي إلى الانحراف غلوًا أو تقصيرًا أن نجعل الواقع والموروث الثقافي الذي نشأ عليه الفرد مصدرًا للحكم على التصرفات والأفعال والرؤى بالصحة والبطلان، أو الحلال والحرام، ولا يقل خطورة عن الموروث الثقافي الراكد أن يجعل الفرد العادات والتقاليد الوافدة هي الأساس والمنطلق في الرؤى والتصورات وبناء الأحكام على السلوكيات والتصرفات بالتحليل والتحريم. فحين ينشأ المسلم في بيئة من البيئات، ويتربى على عادات وتقاليد معينة يرسخ في ذهنه أن هذا هو الصواب وما عداه هو الباطل، ولسيادة هذا الفكر مجموعة من الأسباب نجملها فيما يلي: الكسل الفكري وتسليم زمام العقل للموروث الثقافي الموجود، عدم مراجعة المسلمات الموروثة التي يحسبونها مسلمات بين الحين والآخر، ندرة العلماء الكبار الثقات الراسخين الذين يرجع إليهم في استيضاح هذه المعضلات، ثقافة الأمية والجهل السائدة في مجتمعاتنا العربية، والتي تجعل المسلم على ما نشأ عليه دون تغيير. الانغلاق والانفتاح ثم يتعرض المؤلف للتقاليد الوافدة وآثارها ويقول: كما أن للانغلاق على الراكد من الموروث الفكري والثقافي خطره في طبيعته وآثاره، فإن للانفتاح على الثقافة الوافدة دون ضابط من أصولنا، أو مرجعية من شرعنا مخاطر وآثارًا كبيرة ربما تزيد في طبيعة خطورتها وجسامة آثارها عما يترتب على التقاليد الراكدة. ولهذا الاستلاب الذي يحدث للبعض أسبابه منها عدم التأصيل الشرعي المناسب الذي يقي الإنسان من الوقوع في براثن الوافد، وتمييز ما يقبل منه وما يرفض، وقلة العلماء الثقات الذين يُرجع إليهم عند الاختلاف في القضايا الكبرى لبيان الصحيح من الباطل، والحلال من الحرام، والنشأة والتربية التي ينشأ عليها الفرد قد تخيل إليه أن الانفتاح على كل جديد مهما كان هو التحضر والمدنية، وأن التمسك بالأصول والمبادئ هو التخلف والرجعية. ويقول المؤلف: لا شك أن المنهج الوسط هو التعامل من خلال الشرع لا في ضوء الراكد ولا الوافد، فيتخذ المسلم من شريعته مرجعًا أعلى يستقي منه العقائد والأحكام، ويأخذ منه التصورات والأفكار، ويعادي عليه ويوالي عليه. ويحدد المؤلف بعض المعالم التي تساعد على تلمس المنهج الوسطي في فهم النصوص، والتي أهمها: فهم النص مجردًا دون أن يطغى عليه موروث أو وافد، أو ترغيب أو ترهيب.، فهم النصوص في ضوء ملابساتها وظروفها وبيئاتها، التفريق في النصوص بين ما هو خاص وعام، ومطلق ومقيد ، وفهم النصوص في ضوء عللها وحكمها ومقاصدها. الأولويات والموازنات وفي المبحث الثالث “إدراك فقه المآلات وفقه الأولويات” يتعرض الباحث لفقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه الواقع وفقه المقاصد وفقه السنن، ويقول: لهذه الأنواع من الفقه أهمية خاصة في ترشيد الشباب المسلم وتوجيهه نحو الاعتدال والتوازن بما يحقق محكمات الشرع، ولا يهمل متطلبات العصر، ولا يعني إطلاق هذه الأنواع من الفقه والدعوة إلى الاهتمام بها والتركيز عليها أمرًا قد يبعدنا عن الأصول أو الكليات، بل إننا بغير مراعاة هذا الفقه نبعد كثيرًا عن روح الشرع، وننعزل بعيدًا عن الحياة والأحياء، وما جاء الدين لنعيش به في الماضي، إنما جاء لنستهديه لمشكلات عصرنا كما استهداه من قبلنا لمشكلات عصرهم. التبصر بالواقع وجاء المبحث الرابع بعنوان “التبصر بالواقع الذي يتم تنزيل النصوص عليه بكل أبعاده” فيقول: فقه الواقع لا يقل خطورة عن فقه المآلات أو المقاصد أو الأولويات؛ إذ إن كل الرسالات السابقة على الإسلام جاءت تعالج واقعًا معينًا، ولم تكن بمعزل عن واقعها الذي يتميز بالتغير والتحول والتجدد والتنوع والاختلاف، وكذلك جاءت رسالة الإسلام لتصلح الناس وتسعد حياتهم في ظلاله. وهذا الفقه له أهمية عند الحاكم والمفتي. فقهاؤنا السابقون جاءوا في عصر فكانت لهم اجتهاداتهم الخاصة بعصورهم، ومن المعروف أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والشخص والمآل، وهذا كله اعتبار لفقه الواقع، ويدل على مدى اهتمام الشرع بالواقع، ومدى تفاعل فقهائنا السابقين مع واقعهم، وأنهم استفرغوا جهدهم لاستهداء الشرع لهذا الواقع ومشكلاته، وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا، لنستنزل لواقعنا ومشكلاته من هدايات الشرع ما يجعلنا على طريق مستقيم وصراط قويم. ويؤكد المؤلف على قيمة العلم، ومنزلة العلماء، ويضيف: لا تزال جماهير الأمة المسلمة ترجع إلى العلماء في جميع الظروف، ولا تزال للعلماء مكانة وهيبة وكلمة ومرجعية وقيمة كبيرة في قلوب الأمة، وكل أزمة تمر بها الأمة تُقوِّي هذه المعاني وتؤكدها.