بينّ عدد من المثقفين أن هناك تثاقف ووهم للثقافة، وهناك من يدعيها وهو أبعد الناس عنها، واستكمالًا لما بدأته “الرسالة” الأسبوع الماضي حول “دور المثقف” في قضايا الأمة، فإننا في هذا الأسبوع ننشر الجزء الثاني من الملف. ------------------------------ سمات المثقف دائب الكثير على القول بأن المثقف لا يكون مثقفًا إلا إذا كان متسمًا بجملة من السمات، وأنا أتفق معهم في هذا الاتجاه، مع تأكيدي على أن أهمية بعض السمات تتفاوت بحسب ظروف كل مجتمع واحتياجاته وأطره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولو تقرر هذا، فإنه يسعني القول بأن المثقف العربي يتوجب عليه أن يتصف بقدر كبير من الصدق؛ نظرًا للضعف الكبير في المصداقية في عالمنا العربي، ومنه بالتأكيد مجتمعنا السعودي، لاسيما أننا نتوفر على قدر باذخ من “تزكية ذواتنا”، وقد سبق لي تقدير حجم النفقات السنوية على بعض مظاهر “النفاق الاجتماعي” في السعودية، وخلصت إلى رقم مهول: مليار ريال سنويًا، ومن أراد أن أقنعه بكيفية حساب ذلك المبلغ فليشعرني (مع ملاحظة أنني أحمل شهادة مهنية في المحاسبة القانونية، ولكني لا أمارسها)، وهذا يعني أننا ننفق عشرة مليارات من الريالات خلال عقد واحد فقط! غير أن المثقف يجب أن يضيف شيئًا آخر على الصدق، وهو المنهجية، لنظفر من ثم بمعادلة جوهرية في الثقافة، والتي تتمثل في أن الثقافة = صدق مُمنَهج، وبذلك يفترق “المثقف” عن “العامي”، فصدق المثقف تحكمه المنهجية في التعاطي مع الظواهر والمسائل والإشكاليات التي يعج بها مجتمعه، ويكون قادرًا على تشخيصها والتعبير عنها بأسلوب منهجي، ما يجعله قريبًا من الوصول إلى الحقائق والشفرات النهضوية وتفعيلها في محيط مجتمعه. ولكن كيف يتم تفعيل ذلك؟ هذا يجرنا للحديث عن سمة محورية للمثقف، وهي قدرته على “إنتاج عقيدة نهضوية” محفزة على النهضة، وحاثة على التخلص من باقة الأفكار والعادات والتقاليد والممارسات التي تورط المجتمع في “التطبيع مع التخلف” و“الفساد المقنن” بكافة أشكاله وصوره. إذن دعونا نلخص ما سبق بالقول بأن المثقف هو من يحمل صدقًا ممنهجًا، وقدرة على إنتاج عقيدة نهضوية دافعة على السير في طريق النهضة، وتحمل كامل استحقاقاتها،... وبدهي أن ذلك يتطلب منه ألا يعيش لنفسه!! د.عبدالله البريدي
----------------------------
المثقف ناقد اجتماعي الحديث عن دور المثقف في قضايا الأمة، أو قضايا المجتمع مجالٌ تكثر فيه الطروحات وتتنوّع، وتتباين منطلقاتها. ومن المهم أن نسعى للتحديد والتعريف لمفهوم (المثقّف) حتى نعرف عمّن نتحدّث، وحتى يمكننا قياس مدى صحّة تحميل ذلك الشخص تلك الأعباء التي يُنتظر منه أداؤها. في تراثنا العربي لا تُستعمل كلمة (مثقّف) كما هي الدلالة المستخدمةُ في العصر الحديث، بينما أخذ اللفظ شكله الدلالي المستعمل حاليًا -كما يشير الجابري- في فرنسا، وتحديدًا في القرن التاسع عشر، وعمومًا فالمثقّف يتحدّد وضعه لا بنوع علاقته بالفكر والثقافة، ولا لكونه يكسب عيشه بالعمل بفكره وليس بيده، بل يتحدّد وضعه بالدور الذي يقوم به في المجتمع كمعترض ومبشّر بمشروع، أو على الأقلّ كصاحب رأي وقضيّة. هذا التحديد الدلالي يجعلنا نسير باتجاهٍ أكثر تحديدًا لمن يستحقّ وصف (مثقّف)؛ فهو في جوهره ناقد اجتماعي. والثقافةُ ليست المعرفة وحدها، بل هي لمن أرفق بها سلوكًا، فحملة المعرفة كثيرون، لكنّ المثقّف يتميّز عنهم -وإن كان منهم- بأنه يحوّل المعرفة إلى رأي وممارسة، حيث يتميّز المثقف بسعيه الواعي والدائب لمراقبة مجتمعه، وبذل جهده وافرًا في انتقاد الأحوال الخاطئة، واستخدام محصولاته المعرفية وخبراته التاريخية والعلمية؛ لتقديم طرح بديل للوقائع حين تشتمل على أسباب الضعف والتهاوي. وهنا تحديدًا حينما يمارس المثقّف دوره فستحدث اللازمة التاريخية؛ حيث تتقاطع مصالح (الملأ) مع مصالح العامة، التي يمثّل المثقف دور المدافع عنها والساعي لتحصيلها، بدءًا بالفعل التوعوي والإرشادي، وتحريك الهمم، وتنسيق الفعل الإصلاحي. وبعيدًا عن العلاقة بين المثقف والسلطة -وهو موضوع متشعّب- فإن الفعل الإصلاحي لا يستلزم صراعًا متأصّلًا بين الطرفين؛ إذ بالإمكان أن تتآزر جهود مشتركة تسعى للمصالح العامة، وفي المقابل قد تفقد تلك الجهود شروط صلاحيّتها وفعاليّتها؛ وذلك حينما يتخلّى المثقّف عن مهمّته الحقيقية، ويهدم ركن الفاعلية، ويصبح أداةً من أدوات تزييف الوعي، وترسيخ واقعٍ سيء، أو تخفيف مستوى رفض الجمهور لذلك! ويعدّ بناء القدرة والحسّ النقدي وظيفةً مناطةً بالمثقف؛ فما يحمله من وعي ومحصول معرفي، وبصيرة في النظر والرؤية يتحوّل كلّ ذلك إلى بلورة وعي انتقادي وحراك يهتم بالتصحيح الدائم، وسبر النقائص والعيوب بروح علمية؛ فإن المثقف هو أحد لبنات النخبة المؤثرة التي تتطلّبها كل أمّة ساعية للنهوض، إذ إن أفراد المجتمع لا يمكن أن يشكّلوا وحدة نامية دون برامج تعمل في هذا السياق، وهذه البرامج لا يمكن أن يؤديها عموم الأفراد دون نخبة قادرة على التأثير، كما أن هؤلاء الأفراد -بأعدادهم الكبيرة التي تشكّل مجتمعًا متحضرًا يتعامل مع خدمات ووسائل معيشية، وإدارة تشرّع وتدير شأنه- هم في الوقت ذاته لهم احتياجات فكرية وعلمية تتجدّد باستمرار تبعًا لترهّل نمط الحياة مع مرور الزمن، وبالتالي فإن الحاجة تشتدّ دومًا إلى نخبة قادرة على الأخذ بزمام التثقيف، وبناء نماذج القدوة المتماسّة مع الناس تشعر بنبضها واحتياجاتها، وترقب واقعها، وتستشرف ملامح المستقبل؛ لتهيئ من خلال ذلك رؤية للأحوال، ورسمًا للمآلات المتوقّعة يجعلها قادرة على تحويل تلك المعارف إلى طرقٍ للنقد والتصحيح الواعي، فأيّ تجمّع بشري لا يمكن تسييره دونما انتظام، ولا وجود لذلك دون وجود المثقفين. ولكي يؤدي المثقف دوره المؤمّل منه، فإن ذلك يتطلّب عملية بناء وتأهيل صحيحة؛ فإلى جانب التميّز العلمي، فإن عملية البناء تتطلّب الترابط بينه وبين شرائح مجتمعه لكي يكون قادرًا على تحقيق التأثير؛ إذ لا يمكن تصوّر أن يؤثر شخصٌ -مهما كانت درجته المعرفية- في مجتمع لا يرتبط به ولا يدرك تفاصيله تاريخيًا واجتماعيًا. أو شخصٌ يخلو نسيجه النفسي من مشاعر البغض لجوانب القصور التي تثقل كاهل ذلك المجتمع، وتسبّب تغلغل أسباب الضعف والفساد؟! إن حالةً كتلك كفيلةٌ بإضعاف القبول الجماهيري للمثقف، وهي من مسبّبات إضعاف الفاعلية حينما يظنّ الشخص المؤهّل معرفيًا أن بإمكانه إحداث الأثر فيما هو منعزل عن الناس، ويصنع أو ينكفئ للحواجز بينه وبين العامّة، إما بتميّزه بدرجة معيشية مترفة، أو بمستوىً ينأى به عن التساوي مع الجمهور؛ فهو بذلك يفتقر للشعور الحقيقي بمشكلاتهم، وبالتالي فإنه يعجز عن استيعاب واقعهم، ولن يكون على مستوى الفهم والتفسير المطلوب. إن بعض حمَلة المعرفة يتلبّسون ثياب المثقف، ويأخذون أدواره (المعرفية) فيما هم بعيدون عن أرض المجتمع وفضائه، ثم يرمون المجتمع بضعف الاستجابة، ويُنحون باللائمة على الناس، فيما هم أجدر أن يحمّلوا أنفسهم مسؤولية الموقع الخاطئ البعيد عن الناس. إن الانفصال عن الجمهور يعدّ من أبرز أسباب تخلخل التواصل، مضافًا إليه ما يحدث -أحيانًا- من ضعف التواصل اللغوي الناشئ عن اللغة الأكاديمية التي نمّطت أساليب التفكير لدى الغارقين في القراءة المكتفين بها؛ مما أفقدهم الفاعلية والحيوية، وجعلهم عاجزين عن إنشاء اتصال فعّال مع مجتمعهم. إن المجتمعات أحوج ما تكون لسماع صوت المثقفين، ورؤية كتابتهم؛ توجيهًا رشيدًا نحو قيم الحرية، من أجل تعزيز الوعي، وبناء منظومة للحقوق والواجبات أصلها ثابت وفرعها في السماء. د. مبارك بن زعير
--------------------------
ما هو دور المثقف في القضايا المعاصرة للأمة؟! من أهم أدوار المثقف الملتزم بقضايا الأمة والإنسانية السعي إلى تحليلها، والاجتهاد في اقتراح حلول لها. لكن الرأي السائد في الوعي الجماعي ومحرك الجماهير يفضل الالتزام المتحمس لحرارته على العقل المحلل لبرودته؛ لذلك فأول الواجبات التحرر من طغيان العواطف المعطلة للعلاج العقلي. والمعلوم أن قضايا الأمة تقبل القسمة إلى نوعين. فأما القسم الأول فيغلب عليه الهم الداخلي؛ فينحصر العلاج في كل قطر على حدة، ولعل أهم هذه القضايا قضايا الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية كالمطالبة بالحرية وتحسين الظروف المعيشية. وأما القسم الثاني فيغلب عليه الهم الخارجي، وهو يشمل كل الأقطار، ولعل أهمها على الأقل في الوعي الجمعي تحرير فلسطين كما يتبين من كثرة تداولها وشحنتها المحركة للجماهير. وأبعد المسائل وأهمها هي مسألة توحيد الأمة التي هي أقل المسائل تداولًا وتحريكًا للجماهير. وقد جرت العادة على تقديم القضايا الأولى على القضايا الثانية، كما جرت العادة على تذكر المسألة الثانية كلما عادت الأولى إلى السطح. والغريب أن الرأي العام غالبًا ما ينسى مسائل لا تقل أهمية عن تحرير فلسطين كالأمن المائي لمصر والسودان والعراق وسوريا، والوضع في العراق والسودان والجزائر والمغرب والصومال واليمن، واحتلال إيران لبعض الجزر الإماراتية، وما إلى ذلك من أمور تهدد الأمن العربي، وتقوض العمل المشترك بشغل الأقطار بما هو ملح. وهو ما يجعلها تحت طائل الابتزاز الخارجي. والأغرب أن الأغلبية تطالب بالحرب لتحرير فلسطين، فتخلط بين القضايا الداخلية والقضايا الخارجية توظيفًا للقضية الفلسطينية للنيل -دون قصد- من إنجازات تحققت بعد عناء طويل، وإن كانت دون شك بحاجة إلى التحسين. وعادة ما تقترن هذه الدعوة بجلد الذات، والولاءات التي لا معنى لها كالولاء لإيران وتركيا، والمزايدة على قطبي قلب الأمة الإسلامية أي الوطن العربي أقصد مصر والسعودية مع ما يصحب ذلك من الامتعاض الداخلي في كل قطر على حدة. ومن شأن هذا التصرف أن يعيدنا إلى ستين سنة إلى الوراء أو أكثر، فضلًا عن كونه لن يحقق الهدف المنشود، بل هو من شأنه أن يجعل الأنظمة خاضعة للابتزاز الخارجي مع ما ينتج عن ذلك من تقوية للشعور بعدم الأمان من الداخل. والرأي أن تحرير فلسطين لن يتم إلا بتغيير طبيعة التدخل العربي؛ لئلا تقدم القضية الفلسطينية، وكأنها مواجهة بين العرب واليهود فينسى الرأي العام أنها قضية شعب مستعمر من قبل جاليات غربية، وبعض المغرر بهم من يهود الشرق؛ لذلك فمثل هذا التدخل العربي يمكن أن يعد من أهم ما تتمناه لما فيه من دعم لأطروحة الدفاع عن الذات التي عادة ما تسوق للرأي العام الغربي علمًا، وأن ساسة الغرب على بينة بالدور الحقيقي لإسرائيل في المنطقة. وهم مدركون لاختلال ميزان القوى لصالحها، بل هم من يعملون على دوام هذا الحال. والمعلوم أن سبب وجود إسرائيل وعلة بقائها هو استهداف الغرب للعرب الذين هم القلب النابض للأمة الإسلامية والقوة الوحيدة التي من شأنها أن توحد الأمة الإسلامية؛ نظرًا لمواردها الإنسانية والجغرافية والطبيعية. كما أن تحرير كامل فلسطين لن يكون إلا بمراحل، وبتوزيع الأدوار بين فلسطينيي 67 وفلسطينيي 48. والرأي أن عدم توزيع العمل بين نوعي الفلسطينيين خطأ فادح، خاصة إذا اقترن بتحالف بعض الحركات الفلسطينية مع قوى إقليمية. ويكمن الخطأ في سوء استعمال الهوية العربية. فعوض أن تكون أحد محركات التحرر تصبح أحد الملهيات عنه. فالتسرع في إثباتها للنفس وللعرب الآخرين، والمجاهرة بها عوض العمل على جعلها واقعًا فاعلًا ليخدم القضية الفلسطينية. ولا أحد يشك في عروبة عرب 48 أو إخلاصهم أو باستطاعته أن يشكك فيها. فهم من صبر وثبت على الأرض. ولكن تدخلهم يحول دون قيامهم بحربهم الحقيقية، تلك التي تتوفر فيها مقومات النصر، وهي حرب المواطنة والعدالة داخل إسرائيل. كما أن تدخلهم في حرب تحرير أراضي 67 لن يغير الأمر إلا سلبًا وبطريقة مزدوجة. ويتمثل الوجه السلبي الأول في عدم تمكنهم من تغيير الأمور ومعطيات المواجهة. أما الوجه السلبي الثاني فهو إعطاء إسرائيل ذريعة لترحيلهم وضمهم إلى فلسطينيي 67 وهو ما يعنيه طلب الاعتراف بها كدولة يهودية متعللة بعدم ولاء عربها إليها. أما إذا تم توزيع الأدوار فلن يكون الإسرائيليون اليهود إلا جزءًا من النصف الثاني لدولة فلسطينية ثنائية القومية تقوم الأولى على أراضي 67 وتليها الثانية على أراضي 48 بتغيير طبع دولة إسرائيل. وما عداء اليهود المعلن إلا أحد أسباب تقويض صرح التحرير الفعلي فضلًا عن عدم تحقيق أي هدف إيجابي. لا تقوم الأمم الفاعلة على الكراهية ورد الفعل الجاهلي، خاصة إذا كانت لها مسؤوليات كونية كأمتنا العربية الإسلامية التي تمثل الخطوة الأولى لتحقيق العمل الإسلامي المشترك في سبيل نشر الإسلام وإعلاء كلمة الحق. وبالتالي فإذا صدق الفلسطينيون في عملهم على وحدة الأمة ونهضتها، وفي دعوتهم إليها، فعليهم عدم مطالبة العرب بالدخول معهم في حرب التحرير بالطريقة التقليدية، بل عليهم أن يتبعوا طرقًا ذكية للتحرر تلقى الدعم من الجميع ومن العرب بالطبع دون مد إسرائيل بأقوى حججها: اليهودي المسكين المضطهد من مئات الملايين من العرب المتعطشين لشرب دماء الشعب المتحضر الوحيد في الشرق الأوسط كما يزعمون. وهذا أجدى من انجرار بعضهم وراء مزايدات على من بإمكانه توحيد العرب، وأقصد مصر والسعودية، وهما أكثر من خدم الإسلام وضحى في الحروب السابقة. وإذا تعقلوا في العمل على تحرير فلسطين؛ فعليهم أن يطلبوا من العرب عدم التدخل علنًا في حرب تحريرهم الثنائية كما أسلفنا علاوة على توزيع الأدوار بين فلسطينيي 48 وفلسطينيي 67. ويعيب الكثير على العرب مبادرتهم للسلام ظنًا منهم أن هذه المبادرة فعلية وأن العرب غفل. إنما هي من باب تحييد أحد أهم أسلحة العدو الإعلامية، وأسباب دعم الرأي العام الغربي لها. كما أن هذه المبادرة تجعل العرب قادرين على العمل من أجل توفير شروط الوحدة، وإرساء العمل المشترك الذي بات حاجة ملحة للدول العربية والطريقة الوحيدة التي تمكنها من البقاء، وهذا ما تفرضه المعطيات الاقتصادية، بالإضافة إلى إيمان الساسة به وتوفر الفرصة لتحقيقه. فإذا تحقق الأمر لم تعد أي حاجة للحرب لتحرير فلسطين؛ لأن الغرب عندئذ سيقدم مصالحه مع العرب على دعم إسرائيل، وإذا تحقق التحرير قبل الوحدة زالت أحد معوقاته. نزار يعرب المرزوقي