أصبح إقليم دارفور السوداني ملء السمع والبصر بعد أن بقى لسنين عديدة إقليما صحراويا فقيرا لا يعرف معظم متابعي الشأن السوداني الكثير عنه. وقاد هذا الإقليم الذي تقدر مساحته بخمس مساحة السودان إلى أول حالة لمطالبة العدالة الدولية بمحاكمة رئيس دولة وهو لا يزال على كرسي الحكم، مسجلا سابقة في العدالة الدولية، ومثيرا جدلا واسعا حول إمكانية تسييس المحكمة وطبيعة قراراتها. وكثيرا ما عرف إقليم دارفور صراعات بين الرعاة والمزارعين تغذيها الانتماءات القبلية لكل طرف، فالتركيبة القبلية والنزاع على الموارد الطبيعية الشحيحة كانت وراء أغلب النزاعات في الإقليم، وغالبا ما يتم احتواؤها وتسويتها من خلال النظم والأعراف القبلية السائدة. ففي عام 1989 شب نزاع عنيف بين الفور والعرب، وتمت المصالحة في مؤتمر عقد في الفاشر عاصمة الإقليم. ونشب نزاع ثان بين العرب والمساليت غرب دارفور عامي 1998 و2001، وتم احتواؤه باتفاقية سلام بين الطرفين، وإن كان بعض المساليت آثر البقاء في تشاد. ويمثل إقليم دارفور نظرًا لحدوده المفتوحة ولمساحته الشاسعة ولوجود قبائل عديدة لها امتدادات داخل دول أفريقية أخرى، منطقة صراع مستمر. وقد تأثرت المنطقة بالصراع التشادي-التشادي، والصراع التشادي-الليبي حول شريط أوزو الحدودي، وبالصراعات الداخلية لأفريقيا الوسطى فراجت في إقليم دارفور تجارة السلاح، كما تفاعلت قبائل الإقليم مع تلك الأزمات. ومنذ بداية سنة 2003 نشبت معارك بين القوات الحكومية السودانية وميليشيات الجنجويد الموالية ضد مجموعات من الثوار في الجهة الغربية من إقليم دارفور الذين قادوا تمردا ضد الحكومة بحجة التمييز. وبدأت مع انتشار هذه المعارك الاتهامات المتبادلة بارتكاب جرائم حرب وتهجير وقتل جماعي، ولكن كانت النتيجة النهائية هو انتشار العنف والقتل في الإقليم وبدء حركة نزوح منه. وتراوحت التقديرات بشكل كبير في عدد ضحايا الصراع؛ ففي حين قدرت جهات دولية ومنها الأممالمتحدة عدد الضحايا المحتملين في الصراع بما يتراوح بين 200 و 300 ألف.. تصر الحكومة السودانية أن الرقم لا يتجاوز 25 ألف ضحية منهم 9 آلاف فقط سقطوا نتيجة مواجهات مباشرة. ولكن القضية تصاعدت بشكل كبير لتقود إلى إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة في 4-3-2009 لاعتقال الرئيس السوداني عمر البشير، لإدانته في نوعين من الاتهامات التي جاءت بالمذكرة التي قدمها المدعي العام للمحكمة “لويس مورينو أوكامبو” وهما ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ورغم فشل هذه المذكرة سواء في إنهاء صراع دارفور أو القبض على الرئيس عمر البشير، فقد بادرت المحكمة بتعزيز المذكرة بإضافة اتهامات جديدة لما سبق، حيث اتهمت البشير الشهر الحالي بارتكاب ثلاث جرائم إبادة وخمس جرائم ضد الإنسانية تشمل القتل والإبادة والترحيل القسري والتعذيب والاغتصاب وجريمتي حرب. “المدينة” ترصد ردة فعل الحكومة السودانية والدول العربية والإفريقية وتسلط الضوء في هذا الملف على طبيعة المحكمة الجنائية، وهل قراراتها نابعة من رغبة في تقديم العدالة أم في تمرير رغبات سياسية لجهات ما.