تعجبَّتُ من الحكم الذي أصدرته الهيئة الشرعية الصحية بجدة ضد المستوصف الأهلي الذي تسبب في إصابة الطفلة «مها» ذات الست سنوات بمرض السكري نتيجة خطأ طبي بدفع مبلغ وقدره خمسة آلاف ريال، وعلى كل طبيب من الأطباء الثلاثة ألفي ريالاً، وتعجبتُ أكثر من قرار الهيئة الشرعية الصحية بمكة التي صرفت النظر عن الدعوى التي رفعها زوج المريضة «عبير» التي دخلت إحدى المستشفيات الخاصة، وهي حامل في شهرها السادس لإجراء لها عملية جراحية لإزالة ورم «حميد» بالغدة النخامية كان له التأثير السلبي على عصب العين، تستغرق الساعتين طبقاً لتقدير الطبيب الذي سيجري العملية، فدخلت في غيبوبة مضى عليها الآن ثلاث سنوات، نتيجة خطأ طبي، ووضعت مولودتها، وهي في غيبوبتها وعندما صدر قرار الهيئة الشرعية الصحية بصرف النظر عن الدعوى؛ إذ أغفلت الهيئة الطبية نتائج تقرير اللجنة المحققة والتي أكدت حدوث قصور وعدم بذل العناية اللازمة من الطبيب للحالة، تخلت المستشفى عن رعاية المريضة، وطلبت من الزوج إخراجها من المستشفى لعدم تكلفها بمعالجتها! والهيئة الشرعية الصحية بالرياض التي لم تبت بعد في قضية الخطأ الطبي الذي تسبب بإصابة أحد ساقي المخترع السعودي مهند جبريل أبو دية بغرغرينة أدت إلى بتر ساقه! هذه الأحكام المتساهلة وضآلة تعويضاتها والتباطؤ في إصدارها سيضاعف من الأخطاء الطبية الآخذة في الزيادة، فقد كشفت تحقيقات وزارة الصحة عن وفاة 129 شخصًا نتيجة الأخطاء الطبية خلال عام واحد، كما بلغ عدد القضايا المعروضة على الهيئات الطبية في المملكة 1356 قضية، وكشفت الإحصائية عن تنامي أزمة الشهادات الطبية المزورة لعاملين في المجال الطبي، ووفقًا لآخر إحصائية فإن حالات التزوير بلغت 930 حالة. ولا تستثني الأخطاء الطبية منطقة دون مناطق المملكة، منها وفاة مدير عيادات الأسنان في مستشفى الملك فيصل التخصصي الدكتور طارق الجهني جراء خطأ طبي تعرض له أثناء تخديره لإجراء عملية جراحية في مستشفى خاص في جدة، وكان حكم الهيئة الشرعية الصحية بجدة دفع دية قيمتها مائة ألف ريال، وغرامات مالية على المستشفى الخاص، وعلى الأطباء المخالفين، ليست من نصيب ورثة المتوفى، وفي إحدى مستشفيات المدينةالمنورة توفيت زوجة مقيم في مستشفى خاص أثناء وضع مولودها الذي رأى النور في اللحظة التي ودعت فيها والدته الحياة بفعل الخطأ الطبي، وبعدها تقدم الزوج بشكوى انتهت بصدور حكم الهيئة الطبية الشرعية في صحة المدينة تضمن تحميل الطبيب نصف دية المتوفية» أي 25 ألف ريال فقط؟ هذه أحكام لا يقرها أي قانون إنساني، فما بالكم بشرع الله العادل؟ فهذه الهيئات يجب حذف كلمة «شرعية» من مسماها، لإساءتها للشريعة الإسلامية بالأحكام التي تصدرها. فمن أبعد الأحكام عن قواعد الشريعة ومقاصدها العامة، حكم الهيئة الشرعية الصحية بمكة المكرمة برد دعوى التعويض بعد تحققه من وقوع الضرر، بدخول «المريضة عبير» في غيبوبة على مدى ثلاث سنوات ولا تزال، نتيجة خطأ طبي في إجراء عملية جراحية في إحدى عينيها. كما لا يجوز أن يحكم في خطأ طبي نتج عنه عدة إعاقات لمريض وإتلاف بعض منافع جسده، أو إصابة طفلة صغيرة بمرض خطير مزمن، كمرض السكري بمبلغ مالي لا يتجاوز أحد عشر ألف ريال كالذي حكم للطفلة التي أصيبت بمرض السكري جراء خطأ طبي، أو ما يعادل دية أو جزءاً من دية، في حين لا يلتفت إلى ما ترتب على هذا الخطأ الطبي من اضطرار المريض أو ذويه إلى صرف مبالغ طائلة لتأهيله مع إعاقته وما فات عليه من منافع جوارحه وأعضائه التي أصابها التلف، ومع ذلك نقول إن هذا هو حكم الشريعة!! كما نجد ديوان المظالم رفض مطالب التعويض في تبديل «طفلي نجران»، فلم يقدر ديوان المظالم الأضرار المعنوية على الطفلين وأسرتيهما التي تعرضتا لها من جراء هذا الخطأ الفادح الذي لو لم يتم اكتشافه لاستمر نسب الطفليْن لغير أبويهما. فمن قال إنَّ التعويض عن الأضرار المعنوية لا أصل له في الشريعة الإسلامية؟ فالثابت من نصوص الشريعة أنّ الحقوق المعنوية محل عناية الشريعة واعتبارها، وأنه يمكن التعويض عنها بمال، ومن ذلك حديث زيد بن سعنة حين جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال له: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتم -بني عبد المطلب- إلا مطلاً، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، فقال عمر رضي الله عنه: يا عدو الله: أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟ فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك. فقال -صلى الله عليه وسلم-: يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فأعطه حقه، وزده 20 صاعاً من تمر مكان ما روعته أخرجه الطبراني وابن حبان والحاكم. فهنا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أن يعوِّض الرجل 20 صاعاً من تمر مقابل ترويعه، فما بالكم إن تسبب في تيتم أطفال وحرمانهم من حنان ورعاية أحد والديهم، أو فقدان أحد الحواس؟ يعد هذا الحديث أصل في التعويض عن الضرر المعنوي، وأصل في أنّ تقدير التعويض في هذه الحال يكون جزافياً حسب اجتهاد القاضي، وما يراه محققاً للمصلحة، وجابراً للضرر. وكذا الحال بالنسبة للأضرار المادية؛ إذ ينبغي عدم الاكتفاء بالدية التي ينبغي إعادة النظر في تقدير قيمتها، فإذا لم يستطع المتضرر إثباته بشكل قطعي، فعلى القاضي الأخذ في إثبات هذا الضرر بالقرائن وشواهد الحال، وما يجري عليه العرف في مثل هذه الأحوال وما يقتضيه الحس والواقع، ثم يقضي في ذلك بما يصل إليه من غلبة ظن، وهي معتبرة في الشريعة، إذ ليست كل الأحكام تبنى على القطع واليقين، وإلا لما جاز الحكم بناء على شهادة شاهدي عدل، لاحتمال خطئهما أو حتى كذبهما، والملاحظ على أحكام الهيئات الشرعية الصحية رغم ثبوت الأضرار المادية المترتبة على الأخطاء الطبية إلاَّ أنَّها تقصر التعويضات المالية على الدية، إلى جانب تجاهلها، بل ورفضها للتعويضات المعنوية. وتقدير دية الرجل مائة ألف ريال، والمرأة خمسون ألف ريال، ونسبة ذلك للشريعة الإسلامية، فيه تجنٍ على شريعتنا العادلة، فآية الدية لم تنص على أنَّ دية المرأة نصف دية الرجل، فالآية يوضحها قوله تعالى : (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) أي أنَّ دية المرأة مثل دية الرجل، فالرجل يُقتَل في المرأة، كما تُقتَل المرأة في الرجل، فدمهما سواء باتفاق، فما الذي يجعل دية المرأة دون دِية الرجل ؟ وأكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام « في النفس مائة من الإبل»، فهنا لم يُفرِّق بين رجل وامرأة. هذا وإن كان تعويض الناقة النافقة قُدّر بمليون ريال في إحدى محاكمنا فكيف تقدر دية الإنسان «الرجل» مائة ألف ريال، و»المرأة» 50 ألف ريال، وننسب ذلك إلى الشريعة الإسلامية التي جعلت حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة؟ وبعد فلابد من بحث هذه المسألة، وقد وعد معالي وزير العدل بإعادة دراسة تقدير قيمة الدية، واعتبار التعويضات عن الأضرار النفسية والمعنوية، ونأمل الوصول إلى ما يحقق حفظ الحقوق وجبر الأضرار مع اتفاقها وأحوال عصرنا الذي نعيشه دونما تعصب لأقوال واجتهادات فقهية قديمة لم تعد صالحة لتطبيقها في عصرنا الحاضر، فمن المتفق عليه اختلاف الفتوى والاجتهاد باختلاف الأزمنة والأماكن، كما نأمل تأهيل القضاة في الهيئات الشرعية الصحية على تقدير التعويضات المالية والنفسية والمعنوية المترتبة على الأخطاء الطبية، واقترح أن يكون من أعضاء هذه الهيئات أعضاء من الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان. البريد اليكتروني : [email protected]